الحديث الشريف - الحديث - الحديث النبوي و ما يرشد إليه - شروح الحديث وما يرشد إليه
رقم الفتوى 12602
نص السؤال مختصر

ذكرتم في هذه الفتوى 12590 بأنه ربما إذا صدقت توبة من أذنب بحق العباد وحسنت نيته وعلم الله منه إخلاصاً وصدقاً أن يُرضي اللهُ يوم القيامة على هذا المذنب من له حق عليه، فما دليلكم على هذا؟

نص السؤال الكامل
الجواب مختصر
الجواب الكامل

بسم الله والحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد :

إذا ارتكب المسلم ذنوباً تتعلق بحقوق العباد، ثم لم يؤد إلى أصحاب الحقوق حقوقهم في الدنيا فإنه يوم القيامة سيكون بين أمرين اثنين :

1/ أن يؤدي الحقوق التي عليه لأصحابها بالحسنات والسيئات كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من كانت عنده مظلمةٌ لأخيه فليتحلله منها "يعني في الدنيا"، فإنه ليس ثم "يعني في الآخرة" دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئاته فطرحت عليه). 

2/ أن يرضى الله تعالى عنه ويغفر له ذنبه، فإذا رضي الله عنه وغفر له ذنبه فإنه تعالى يُرضي أصحاب الحقوق عن صاحب الذنب بواسع كرمه وجميل مواساته.

وقد رويت أحاديث ضعيفة في التنصيص على هذا المعنى بتعويض الله تعالى أصحاب الحقوق عوضاً عن المذنب بها إذا أراد الله مغفرة ذنوبه، ومنها ما رواه ابن ماجة وغيره مطولاً وأبو داود مختصراً من حديث عباس بن مرداس: 

(أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا عشية عرفة لأمته بالمغفرة والرحمة ، فأكثر الدعاء، 

فأوحى الله تعالى إليه : إني قد فعلت إلا ظلم بعضهم بعضاً ، وأما ذنوبهم فيما بيني وبينهم فقد غفرتها.

فقال : " يا رب ، إنك قادر على أن تثيب هذا المظلوم خيراً من مظلمته ، وتغفر لهذا الظالم " . 

فلم يجبه تلك العشية، 

فلما كان غداة المزدلفة أعاد الدعاء ، فأجابه الله عز وجل : إني قد غفرت لهم) 

وهو حديث ضعيف جداً استنكره ابن عدي وابن حبان وقال البخاري باطل.

ومنها ما رواه الحاكم وأبو يعلى وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : 

(بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه ، فقال له عمر : ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي ؟ قال : رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة ، فقال أحدهما : يا رب خذ لي مظلمتي من أخي، فقال الله تبارك وتعالى للطالب : فكيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء ؟ 

قال : يا رب فليحمل من أوزاري " 

قال : وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ، ثم قال: " إن ذاك اليوم عظيم يحتاج الناس أن يحمل عنهم من أوزارهم ، فقال الله تعالى للطالب : " ارفع بصرك فانظر في الجنان فرفع رأسه ، فقال : يا رب أرى مدائن من ذهب وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ ، لأي نبي هذا أو لأي صديق هذا أو لأي شهيد هذا ؟ 

قال : هذا لمن أعطى الثمن ، 

قال : يا رب ومن يملك ذلك ؟ قال : أنت تملكه

قال : بماذا ؟ قال : بعفوك عن أخيك ، 

قال : يا رب فإني قد عفوت عنه ، قال الله عز وجل : فخذ بيد أخيك فأدخله الجنة ") 

وهو حديث شديد الضعف ضعفه البخاري وغيره. 

وقريب منه ما رواه أحمد وأبو داود الطيالسي وغيرهما عن عبد الرحمن بن أبي بكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : 

(إن الله تبارك وتعالى يدعو صاحب الدين يوم القيامة فيقول : "يا ابن آدم ، فيم أضعت حقوق الناس ؟ فيم أذهبت أموالهم ؟" 

فيقول : يا رب ، قد علمتَ أني لم أفسده ، ولكن أصبت إما غرقا وإما حرقا . 

"وفي رواية فيقول : أي رب ، قد علمت أني لم أفسده ، إنما ذهب في غرق ، أو حرق ، أو سرقة ، أو وضيعة"

فيقول عز وجل : " أنا أحق من قضى عنك اليوم " ، 

فترجح حسناته على سيئاته فيؤمر به إلى الجنة) . 

وهو حديث ضعيف أيضاً، 

على أن معناه يختص بمن لم يأخذ أموال الناس بالباطل عمداً بل أصابته جائحة ونحو ذلك، ومثل هذا لا يدخل في الذنوب إلا إن كان عن تفريط.

والخلاصة أن الأحاديث التي تنص على إرضاء الله تعالى للخصوم لا يصح منها شيء.

لكن المعنى العام صحيح، وله أدلة عامة متعددة، ومن أدلة ذلك من القرآن قوله تعالى (إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَغۡفِرُ أَن یُشۡرَكَ بِهِۦ وَیَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَ ٰ⁠لِكَ لِمَن یَشَاۤءُۚ)[سورة النساء 48] فعلق مغفرة الذنوب بكل أنواعها "دون الشرك" بالمشيئة الإلهية.

ومن السنة ما رواه البخاري وغيره عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه (أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَالَ، وحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِن أصْحَابِهِ : 

{بَايِعُونِي علَى أنْ لا تُشْرِكُوا باللَّهِ شيئًا، ولَا تَسْرِقُوا، ولَا تَزْنُوا، ولَا تَقْتُلُوا أوْلَادَكُمْ، ولَا تَأْتُوا ببُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بيْنَ أيْدِيكُمْ وأَرْجُلِكُمْ، ولَا تَعْصُوا في مَعروفٍ.

فمَن وفَى مِنكُم فأجْرُهُ علَى اللَّهِ، ومَن أصَابَ مِن ذلكَ شيئًا فَعُوقِبَ في الدُّنْيَا فَهو كَفَّارَةٌ له، 

ومَن أصَابَ مِن ذلكَ شيئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهو إلى اللَّهِ، إنْ شَاءَ عَفَا عنْه وإنْ شَاءَ عَاقَبَهُ} فَبَايَعْنَاهُ علَى ذلكَ). 

ففي آخر الحديث علق مغفرة هذه الذنوب (وعدد منها متعلق بحقوق العباد) بمشيئة الله تعالى.

فإذا كان لإنسان حقوق على غيره فلا شك أن حقوقه لن تضيع حتى وإن غفر الله للمذنب، لأن الله تعالى لا يظلم الناس مثقال ذرة، وحينئذٍ فإن غُفر للمذنب فإن الله سيتكفل لصاحب الحق بما يرضيه.

وهذه المغفرة مشروطة برضا الله تعالى عن المذنب المطلوب بالحق، ومشيئته سبحانه، 

وربطها الغزالي بالتوبة من الذنب وعدم العودة إليه كما في قوله تعالى (إنه كان للأوابين غفوراً) واستحسنه القرطبي وقال (وهو تأويل حسن. 

أو يكون ذلك فيمن يكون له خبيئة حسنة من عمل صالح يغفر اللّه له به، ويرضي خصماءه)

ولا ينبغي أن يغتر المسلم بهذا الاحتمال فيتجرأ على حقوق العباد ويتكئ على احتمال المغفرة هذا، لأن هذا الاحتمال مشروط بما لا يملكه الإنسان ولا يضمنه من رضا الله تعالى عن صاحب الذنب ومغفرته له،وإذا لم تشمله رحمة الله تعالى فإنه سيكون معرضاً لأداء الحقوق يوم القيامة لأصحابها بالحسنات والسيئات، وهو ما قد يودي به إلى التهلكة عياذا بالله تعالى.

كما أن صاحب الذنب لا يضمن أن يفسح في أجله فيتوب من ذنبه توبة صادقة نصوحا لاحقا، فربما أذنب في حقوق العباد ثم مات التوبة، فلقي الله بذنوبه وحقوق العباد في ذمته. 

والله تعالى أعلم.

تاريخ النشر بالميلادي 2020/08/16

المفتي


د. براء يوسف حلواني

د. براء يوسف حلواني

السيرة الذاتية
المحتوى الخاص به