الفقه الإسلامي - ما يخص الفقه و أصوله - ما يخص الفقه - الحظر و الإباحة
رقم الفتوى 11847
نص السؤال مختصر

حكم رسم ذوات الأرواح {الصور المسطحة}، وما حكم رسم الديجيتال ؟

نص السؤال الكامل
الجواب مختصر
الجواب الكامل

بسم الله والحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد :

فالراجح في هذه المسألة الجواز مع الكراهة كما قال المالكية، بل أرى أنه مما يؤجر المرء عليه إن استعمله في الدعوة وخدمة الدين، ولا شك أن الأمة اليوم بحاجة الرسم للتعليم والتوجيه.
وذكر الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه الحلال والحرام ضوابط الرسم إذ قال :
فإن كانت الصورة الفنية لما يُعبد من دون الله - كالمسيح عند النصارى، والبقرة عند الهندوس - وما شابه ذلك، فإن من صورها لهذا الغرض وبهذا القصد لا يكون إلا كافراً، ناشراً الكفر والضلال.
وفي مثله جاء الوعيد الشديد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :{إن أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة المصورون} رواه البخاري.
قال الطبري :{إن المراد هنا من يصور ما يُعبد من دون الله ، وهو عارف بذلك، قاصداً له؛ فإنه يكفر بذلك، وأما من لا يقصد ذلك فإنه يكون عاصياً بتصويره فقط} انتهى من فتح الباري.
و مثل ذلك من علق هذه الصوره تقديساً لها فهذا عمل لا يصدر من مسلم، إلا إذا طرح الإسلام وراء ظهره.
وقريب من ذلك من صور ما لا يُعبد، قاصداً بتصويره مضاهاة خلق الله، أي مدعياً أنه يخلق ويبدع، كما يخلق الله جلّ وعلا، فهو بهذا القصد يخرج من دين التوحيد، وفي مثل هذا جاء الحديث:{أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله} رواه البخاري.
وهذا أمر يتعلق بنية المصور وحده.
ولعل مما يؤيد هذا الحديث عن الله تعالى :{ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حبة، وليخلقوا ذرة} رواه البخاري.
فالتعبير بقوله :{ذهب يخلق كخلقي} يدل على القصد إلى المضاهاة، ومنازعة الألوهية خصائصها من الخلق والإبداع، وتحدي الله تعالى لهم أن يخلقوا حبة أو ذرة يشير إلى أنهم في فعلهم هذا المعنى.
ولهذا يجزيهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة حين قال لهم: أحيوا ما خلقتم ! وتكليف المصور منهم أن ينفخ الروح في صورته، وليس بنافخ فيها أبداً.
ومما يحرم تصويره واقتناؤه : الصور التي يقدس أصحابها تقدسياً دينياً، أو يعظمون تعظيماً دنيوياً، فالأولى كصور الأنبياء والملائكة والصالحين، مثل إبراهيم وإسحاق، وموسى ومريم وجبريل وغيرهم، وهذه تروج عند النصارى، وقد قلدهم بعض المبتدعة من المسلمين، فصوروا عليّاً وفاطمة وغيرهما.
والثانية كصور الملوك والزعماء والفنانين في عصرنا، وهذه أقل من تلك، ولكن يتأكد الإثم فيها، إذا كان أصحابهما من الكفرة أو الظلمة أو الفساق، كالحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، والزعماء الذين يدعون إلى غير رسالة الله، والفنانين الذين يمجدون الباطل، ويشيعون الفاحشة والميوعة في الأمة.
ويبدو أن كثيراً من الصور في عصر النبوة وما بعده، كانت من النوع الذي يقدس ويعظم، إذ كانت في الغالب من صنع الروم والفرس أي النصارى والمجوس - فلم تكن تخلو من تأثير عقيدتهم وتقديسهم لرؤساء دينهم أو دولتهم. وقد روى مسلم عن أبي الضحى قال :{كنت مع مسروق في بيت فيه تماثيل، فقال لي مسروق :هذه تماثيل كسرى؟ فقلت :لا، هذه تماثيل مريم} كأن مسروقا ظن أن التصوير من مجوسي، وكانوا يصورون صور ملوكهم حتى في الأواني، فظهر أن التصوير كان من نصراني، وفي هذه القصة : قال مسروق : سمعت عبد الله - يعني ابن مسعود - يقول :سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :

{إن أشد الناس عذابا عند الله المصورون}، وأما ما عدا ذلك من الصور واللوحات، فإن كانت لغير ذي روح، كصور النبات والشجر، والبحار والسفن والجبال ونحوها من المناظر الطبيعية لنبات أو جماد فلا جناح على من صورها أو اقتناها، وهذا لا جدال فيه.
وإن كانت الصورة لذي روح، وليس فيها ما تقدم من المحظورات: أي لم تكن مما يقدس ويعظم، ولم يقصد فيها مضاهاة خلق الله، فالذي أراه أنها لا تحرم أيضاً. وفي ذلك جاءت جملة الأحاديث الصحاح.
ففي الصحيحين عن بسر بن سعيد ، عن زيد بن خالد ، عن أبي طلحة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة ". قال بسر : ثم اشتكى زيد بعد فعدناه فإذا على بابه ستر فيه صورة، قال : فقلت لعبيد الله الخولاني ربيب ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول ؟ فقال عبيد الله : ألم تسمعه حين قال : إلا رقماً في ثوب.] انتهى.

وقد أكمل بعد ذلك الاستدلال بعدة أحاديث نكتفي بالحديث السابق.
ويقصد بحرمة رسم الفساق والظلمة ما كان على سبيل التكريم، أما إن كان على سبيل حكاية ظلمهم والتشهير بهم والتحذير منهم فيجوز.

والرسم في الآونة الأخيرة صار عبر الأجهزة الإلكترونية حتى ظهر لنا مؤخراً رسم الديجيتال، بحيث تظهر الرسمة كأنها صورة فوتوغرافية، وحكمه حكم الرسم العادي، ويزيد عليه ضوابط التصوير الفوتوغرافي المذكورة في هذه الفتوى 10747  ما لو كان المرسوم إنساناً حقيقياً.

فإن جاز الرسم مع الكراهة جاز التكسب منه، والأحوط ألا يرسم ما تكتمل به الحياة، كما لو رسم حيواناً مقطوع الرأس أو مخروق البطن أو الصدر.
والمرجو ممن رزقهم الله هذه الموهبة أن يشكروا هذه النعمة بتسخيرها في خدمة دين الله والذب عنه وإعانة إخوانهم المسلمين في الرجوع إلى ربهم والثبات عليه، قال تعالى :{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ ۚ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [النحل : ‪120-121‬]
والله تعالى أعلم.

تاريخ النشر بالميلادي 2019/10/16

المفتي


الأستاذ الدكتور محمد مصطفى الزُحَيلي

الأستاذ الدكتور محمد مصطفى الزُحَيلي

السيرة الذاتية
المحتوى الخاص به