العقيدة الإسلامية - العقيدة - الإيمان و التوحيد - الشبهات والاستشكالات
رقم الفتوى 12665
نص السؤال مختصر

لماذا عاد الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة إلى المدينة و لم يبق في مكة، مع أن مكة أحب الأرض إلى الله عز وجل ؟

نص السؤال الكامل
الجواب مختصر
الجواب الكامل

بسم الله والحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد :

- فأما أن مكة (أحب البلاد إلى الله) فهذا صحيح وثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث متعددة، من أشهرها ما رواه ابن حبان في صحيحه والترمذي والحاكم وصححاه، وغيرهم عن عبد الله بن عدي بن حمراء الزهري قال: 

رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته واقفاً بالحزورة – موضع ملاصق للحرم المكي - يقول (والله إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت)، قال ابن عبد البر عن هذا الحديث: حديث حسن صحيح ثابت عند جماعة أهل العلم بالحديث، وقال: لا يختلف أهل العلم بالحديث في صحته.

- ومكة كذلك (من أحب البلاد إلى رسول الله) كما صح عنه فيما رواه ابن حبان في صحيحه والترمذي والحاكم وصححاه، وغيرهم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة (ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك).

وبلغ حب النبي صلى الله عليه وسلم مكة أن جعل حبها مضرب المثل في دعائه، كما أخرج البخاري ومسلم عن عائشة عنه أنه قال (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد).

- وأما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستوطن مكة بعد فتحها، وعاد إلى المدينة وعاش بها إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم فعلى هذا إجماع أهل السنة والسيرة وعامة المسلمين.

لكن لماذا لم يعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى سكنى مكة واستيطانها بعد فتحها رغم فضلها العظيم و مكانتها الكبيرة عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم؟

لهذا عدة أسباب نختصرها في النقاط التالية :

1. أن النبي صلى الله عليه وسلم كان (مهاجراً ) لله تعالى، وقد وصف نفسه عليه الصلاة والسلام بذلك كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة و أنس وأبي سعيد الخدري وجابر وغيرهم فقال (ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار)، وفي حديث عبد الله بن جبير الخزاعي عند الضياء المقدسي – وقد اختلف في صحبة عبد الله بن جبير، وفي إسناد حديثه ضعف – أنه قال (ولولا أن الله عز و جل سماني من المهاجرين لأحببت أن أكون من الأنصار).

والهجرة (الخروج لله تعالى من أرض الكفر لاستيطان أرض الإسلام) 

وتتعلق بالهجرة أحكام شرعية متعددة، من أهمها: 

أن المهاجر ترك بلده التي كان فيها لوجه الله تعالى، ولا يشرع لمن ترك شيئاً لله تعالى أن يعود فيه.

ولهذا قال أكثر العلماء إن استيطان المهاجرين بمكة ولو بعد فتحها محرم، واستدلوا على ذلك بأحاديث كثيرة منها نهي النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين أن يقيموا في مكة بعد فتحها بعد النسك أكثر من ثلاثة (3) أيام لغير حاجة، كما في الصحيحين وغيرهما عن العلاء بن الحضرمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثاً) وفي رواية (لا يمكث رجل من المهاجرين بمكة بعد ما يقضي النسك فوق ثلاثة أيام) وفي رواية (رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمهاجرين أن يقيموا ثلاثاً بعد الصدر بمكة).

بل كان يكره صلى الله عليه وسلم للمهاجر أن يموت في الأرض التي هاجر منها كما ثبت في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص، وكان يدعو لمن مرض من أصحابه بمكة كسعد بن أبي وقاص (اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ، ولا تردهم على أعقابهم)، وروى البيهقي عن عبد الرحمن بن هرمز – مرسلاً ، و المرسل من أخف أنواع الحديث الضعيف - أنه صلى الله عليه وسلم خلف على سعد بن أبي وقاص وهو بمكة رجلاً فقال للرجل (إن مات فلا تدفنه حتى تخرجه منها)، وروى أحمد والبيهقي بسند جيد عن ابن عمر أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل مكة قال (اللهم لا تجعل منايانا فيها حتى تخرجنا منها)، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان ينهى المهاجرين عن اتخاذ الأموال بمكة فقال كما روى البيهقي وغيره (يا معشر المهاجرين لا تتخذوا الأموال بمكة، وأعدوها لدار هجرتكم؛ فإن قلب الرجل عند ماله).

وليس هذا خاصاً بالهجرة من مكة بل هو عام في كل هجرة لله تعالى بما في ذلك هجرة الأعراب من مناطق بدوهم إلى المدينة، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن (التعرب) بعد الهجرة، وهو أن يعود الرجل أعرابياً بعد أن هاجر لله تعالى، وثبت ذلك في أحاديث كثيرة.

بل روي الزجر عن ذلك والتحذير منه في أحاديث متعددة (وإن كان فيها ضعف) لكن أصل النهي عن التعرب بعد الهجرة ثابت، فقد روى الحاكم وغيره عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من فارق أمة، أو عاد أعرابياً بعد هجرته فلا حجة له)، وروى الطبراني عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لعن الله من بدا – يعني عاد إلى البادية - بعد هجرة ، لعن الله من بدا بعد هجرة ، لعن الله من بدا بعد هجرة إلا في فتنة)، وروى البيهقي وغيره عن ابن مسعود أنه قال (آكل الربا وموكله وشاهداه إذا علماه ... والمرتد أعرابياً بعد الهجرة ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم).

وإذا قررنا كل هذا فما كان النبي صلى الله عليه وسلم (وهو مهاجر كما قررنا في البداية) ليخالف أصحابه إلى ما ينهاهم عنه، ولم يكن ليقول ما لا يفعل وحاشاه عليه الصلاة والسلام، ولهذا فمن الطبيعي ألا يعود إلى الاستيطان والعيش في مكة حتى ولو فتحت ودخل أهلها في دين الإسلام.

2. أن النبي صلى الله عليه وسلم تعاهد مع الأنصار على أن ينتقل إليهم ويعيش معهم ويبقى بينهم، ولا يليق بكريم الخلق أن ينقض عهده ويُخلف وعده، فكيف بسيد الأولين والآخرين الموصوف (بالخلق العظيم)؟!

ولهذا لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة ثم انتصر في حنين ووزع كثيراً من الغنائم فخشي الأنصار أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد حنّ لقومه وأنه ينوي الرجوع إليهم في مكة فقال بعضهم لبعض كما في صحيح مسلم وغيره (أما الرجل – يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته)، فنزل الوحي وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم، فدعاهم جميعاً ثم سألهم عن مقالتهم فأقروا بها، فقال لهم (كلا – أي ما ظننتموه من رغبة النبي صلى الله عليه وسلم الرجوع إلى مكة خطأ -) ثم قال (ألا فما اسمي إذاً ؟!) يكررها ثلاث مرات، ثم قال ( إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، والمحيا محياكم، والممات مماتكم) فبكوا وقالوا (والله ما قلنا إلا ضنا بالله ورسوله) يعني رغبة في بقائك عندنا، فصدقهم رسول الله وعذرهم.

وشرح هذا الحديث يوضح المعنى المستشهد به فيه بشكل أوضح:

- قال الإمام النووي في شرح قول الأنصار (أدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته) عن النبي عليه السلام:

(معنى هذه الجملة أنهم رأوا رأفة النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مكة وكف القتل عنهم، فظنوا أنه يرجع إلى سكنى مكة والمقام فيها دائماً و يرحل عنهم ويهجر المدينة فشق ذلك عليهم).

- قال التوربشتي في شرح رد النبي صلى الله عليه وسلم على الأنصار:

(كلا: أي ليس الأمر على ما توهمتم. 

وقوله "إني عبد الله ورسوله" أي: كوني على هذه الصفة يقتضي أن لا أعود إلى دار تركتها لله، وأن لا أرغب في بلدة هاجرت منها إلى الله.

قوله "هاجرت إلى الله وإليكم" يعني: أن القصد في الهجرة كان إلى الله، وأن التهاجر من دار قومي كان إلى داركم. 

وقوله "المحيا محياكم والممات مماتكم" يريد: ما حييت أحيا في بلدكم، كما تحيون فيه، وإذا توفيت في بلدكم كما تتوفون، لا أفارقكم حياً ولا ميتاً.)

وفي قوله (ألا فما اسمي إذاً؟!) دليل على استنكار النبي صلى الله عليه وسلم ما ظنوه به من نقض عهده معهم ورجوعه إلى مكة بعد هجرته.

- قال الإمام القرطبي شارحاً هذه العبارة:

(قيل: إنما قال ذلك تنبيهًا على أن صدق اسمه "محمد" عليه يمنعه من نقض العهد، وترك القيام بحق من له حق، فكأنه قال "لو فعلت ذلك لما استحققت أن أسمّى محمدًا، ولا أحمد؛ وكلاهما مأخوذ من الحمد") 

قال القرطبي: 

(ويدل على صحة هذا التأويل قوله "المحيا محياكم، والممات مماتكم"؛ أي لا أفارقكم حياتي ولا موتي).

3. أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن هاجر هو وأصحابه من مكة وبقية بقاع الجزيرة العربية إلى المدينة المنورة أسس فيها دولة الإسلام وحاضرته العظمى، فكانت بما فيها ومن فيها حصن المسلمين الأول، وقاعدتهم وفئتهم، وكان فيها أعيان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الفضل والعلم والسابقة والهجرة والنصرة، وفيها وحولها عشرات الآلاف من المسلمين رجالاً ونساءً كباراً وصغاراً، ممن هاجروا إلى رسول الله وناصروه في غزواته وسراياه، وحفظوا كتابه وتناقلوا سنته وتعلموا دينه، وحاربوا أعداءه وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فقُتل منهم من قُتل وجُرح منهم من جُرح، تنطلق من المدينة السرايا وتخرج منها الجيوش، ويقصدها المشركون ويجتمع عليها الأعداء بخيلهم ورجلهم يريدون استئصال شأفة الإسلام فيقاتلهم أهلها ويردونهم بغيظهم لم ينالوا خيراً ، وأهل المدينة على مدار (8) سنوات يتبركون بوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم صباح ومساء، وينالون من شرف صحبته وكريم لقياه أعظم المنى وأعلاها. 

وفي مثل هذا الحال ما كان ليصلح لحال دولة الإسلام ولحال مسلمي المدينة وهي عاصمة الإسلام أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم كل هذا وينتقل إلى مكة المكرمة، فلهذا كان في بقاء النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة مصلحة الإسلام والمسلمين ودولتهم.

وبعد كل هذا فلا شك أن في بقاء النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد فتح مكة رغم ما أخبر به من أنها (خير أرض الله وأحبها إليه) دليلاً واضحاً على أنه رسول الله من عند الله حقاً، فلو كان ممن يتبع هواه – وحاشاه عليه الصلاة والسلام – لرجع إلى موطن صباه وأرض أهله وقبيلته، وخير البلاد وأحبها إليه وإلى الله تعالى كما أخبر بذلك، ولما كان في رجوعه هذا مستنكر ومستغرب والنفوس تحن إلى أوطانها، فكيف بوطن هو أحب الأرض إلى الله وإلى رسوله؟!

لكنه كان عليه الصلاة والسلام عبداً لله تعالى، يطيع أمره ويقف عند حدوده ولو على حساب نفسه ورغباته، ولهذا بقي في المدينة رغم كل ذلك ولم يعد إلى استيطان مكة.

وربما يكون مما أعانه على ذلك ما ثبت في الصحيحين من دعائه عليه الصلاة والسلام ربه بأن يحبب إليهم المدينة كحب مكة أو أشد، وهو مستجاب الدعاء ولا شك، فكان في هذه المحبة التي ألقاها الله في قلبه الشريف وفي قلوب أصحابه من المهاجرين ما يجبر كسر قلوبهم على فراق مكة واتباع أمر الله تعالى بالبقاء في المدينة حتى بعد فتح مكة.

والله تعالى أعلم.

تاريخ النشر بالميلادي 2020/10/14

المفتي


د. براء يوسف حلواني

د. براء يوسف حلواني

السيرة الذاتية
المحتوى الخاص به