الفقه الإسلامي - العبادات و ما يلحق بها - ما يلحق بالعبادات - الأدعية و الرقائق و الأذكار
رقم الفتوى 12604
نص السؤال مختصر

ما تفسير كون بعض الصحابة رضوان الله عليهم سألوا الله أن يجعل لهم نصيباً من الوباء الذي حصل في زمانهم ؟ أليس هذا يعارض قوله صلى الله عليه وسلم : {لا تدعوا على أنفسكم}؟ وما حكم الاقتداء بالصحابة في هذه المسألة ؟

نص السؤال الكامل
الجواب مختصر
الجواب الكامل

بسم الله والحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد :

فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المسلم عن تمني البلاء والتعرض لأسبابه، فقد أخرج الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق.

ووجَّه الصحابة إلى طلب العافية من الله تبارك وتعالى، فقد أخرج الشيخان عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية)

وتعوذ صلى الله عليه وسلم من البلاءات و تغير العافية والأمراض، ففي صحيح مسلم :قَالَ صلى الله عليه وسلم:(اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ) ، وقَالَ صلى الله عليه وسلم:(اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبَرَصِ، وَالْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَمِنْ سَيِّئِ الأَسْقَامِ) رواه أبو داود والنسائي وأحمد.

وحدث أن سأل أحد الصحابة تعجيل عقوبته في الدنيا، ولما وقع به ما سأل، ضعف عن التحمل، فجاءه البيان المحمدي بأن يسأل الله الحسنة في الدنيا والآخرة، فقد أخرج مسلم عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد( من العيادة ) رجلاً من المسلمين، قد خفت (أي ضعف صوته ) فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله، لا تطيقه -أو لا تستطيعه- أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار؟ قال: فدعا الله له فشفاه.

وأما ما ورد عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ! ما جزاء الحمى؟ قال : تجري الحسنات على صاحبها . فقال: اللهم إني أسألك حمى لا تمنعني خروجاً في سبيلك، فلم يُمسَّ أُبي قط إلا وبه الحمى، ثم إن ملازمة الحمى له حرفت خلقه يسيراً. أخرجه الطبراني

ومثله ما رواه ابن كثير في طاعون عمواس أنه لما اشتعل الوجع، قام أبو عبيدة في الناس خطيباً فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة بكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم لأبي عبيدة منه حظه، فطعن، فمات.

واستخلف على الناس معاذ بن جبل، فقام خطيباً بعده، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة بكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن معاذ يسأل الله تعالى أن يقسم لآل معاذ منه حظهم، فطعن ابنه عبد الرحمن فمات، ثم قام فدعا لنفسه فطعن في راحته فلقد رأيته ينظر إليها ثم يقلب ظهر كفه، ثم يقول: ما أحب أن لي بما فيك شيئاً من الدنيا.البداية والنهاية (7/ 79) ،فأبو عبيدة رضي الله عنه ومعاذ بن جبل رضي الله عنه سألا الله الإصابة بالطاعون.

فهذان الأثران منتقدان من وجوه : 

1- حديث أبي بن كعب رضي الله عنه ضعيف السند، قال عنه العراقي : « والإسناد مجهول، قاله علي بن المديني »المغني عن حمل الأسفار (2/ 1139) وقال المقدسي:« إسناده ضعيف»،الأحاديث المختارة (4/ 44) .

2- أن هذا اجتهاد من الصحابي برأيه،ولا حجة فيه على الأمة، لاسيما مع معارضته للأحاديث الصحيحة الواردة في النهي عن تمني البلاء. 

3- أن فعل أبي عبيدة ومعاذ رضي الله عنهما خاص بنوع من الوباء، ألا وهو الطاعون،وبعد وقوعه ( لما اشتعل الوجع).

وقد ورد عن عَائِشَةَ، أَنَّهَا سَأَلت النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَنِ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَهَا أَنَّهُ كَانَ عَذَاباً يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاء، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ في الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِراً يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ) أخرجه البخاري ، فسؤالهما جاء بعد وقوع الطاعون ونزوله ببلدهما. 

وقد ورد الفرح بالابتلاء إذا وقع ، ففي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قَالَ : (قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً ؟ قَالَ : الأَنْبِيَاءُ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : ثُمَّ الصَّالِحُونَ.........وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلاَءِ كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ) رواه ابن ماجه. 

وهذا الفرح بالبلاء بعد وقوعه مختلف عن مسألة تمني البلاء , إذ تمني البلاء منهي عنه، وأما بعد وقوعه فلابد من الصبر والفرح بقضاء الله وقدره، والتسليم بأن ما قدره وكتبه هو الخير والصلاح للعبد، ففي البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرني أنه: عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحدٍ يقعُ الطاعونُ فيمكث في بلده صابراً محتسباً، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد.

وبهذا يعلم أنه لا يصح تمني نزول البلاء، وما ورد عن الصحابة إما ضعيف لا يثبت، أو مؤول فلا حجة فيه على الأمة. 

والله تعالى أعلم.

تاريخ النشر بالميلادي 2020/08/17

المفتي


د. ميادة الحسن

د. ميادة الحسن

السيرة الذاتية
المحتوى الخاص به