قصص في الرزق {من الواقع}.

خبأت لها والدتها كيس طحين مختوماً يزن 15 كغ، بقي عند أمها قرابة شهر إلى أن أتيح للأم إيصاله لبيت ابنتها البعيد عنها.

وضعت ابنتها الكيس في كيس أسود كبير حتى إن خُرق كيس الطحين فلا يقع منه شيءٌ على الأرض.

في اليوم التالي خرج الزوج إلى عمله مسرعاً وكعادته أخذ معه كيس القمامة من البيت ليلقيه في المكان المخصص، وعند عودته رأى كيس القمامة على حاله فاستغرب، فسأل زوجته عن القصة وبعد قليل من التحليل تبين أنه قد رمى كيس الطحين لا كيس القمامة !! ويكأنه رزق ادّخره الله عند أمها شهراً ليصل للفقير الذي ينتقي من القمامة في الوقت الذي اختاره الله له، وبدون أن يبذل الفقير أي عناء في حمله وجلبه من تلك المنطقة البعيدة، بل وصله مختوماً لئلا يتسخ إلى حين قدومه، فسبحان الله الرزاق الكريم.

___

اتصلت به زوجته تخبره أن جارتها منذ قليل قد طلبت منها القليل من الزيت لأنه لم يتبق في منزلها طعام يسد جوع أطفالها سوى القليل من الزعتر، فأغمّه الخبر وأنهى المكالمة، وراح يفكر بالذي ينبغي عليه فعله، فتردد خوفاً من أن يفتح بابا عليه ليس أهلاً له، وضميره يؤنبه كيف تترك جارتك جائعة والرسول صلى الله عليه وسلم قد قال : مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا , وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ , وَهو يَعْلَمُ بِهِ. رواه الطبراني والبزار، فاستشار صديقه فنصحه أن يجلب لها بعض الحاجيات من الطعام، ففعل وتعمد إخفاء الخبر عن زوجته.

في اليوم التالي أتت زوجته لتخبره بأن للقصة تتمة، وأن جارتها أخبرتها بأنها حدثت أخاها المغترب بأنها لا تملك سوى الزعتر في بيتها من فقرها، فقال لها غداً سأرسل لك مالاً ، ثم راحت تحدثه كيف فرح الأولاد حين أتت أمهم (أي جارتهم) بما اشترت به من حاجيات لبيتها بالمال الذي أرسله لها أخوها، فقال لها : ليتك قلت البارحة أن للقصة تتمة وأنه سيأتيها مال اليوم. فسألته عن السبب فأخبرها بما اشتراه بالأمس وأنه لو علم أنه سيأتيها مال في اليوم التالي لما جلب لها شيئاً، ربما اكتفى بتقديم الطعام لها ليلتها تلك، فألهمه الله إنهاء المكالمة قبل أن تتم زوجته الكلام أو أنسى الزوجة أن تتم القصة ليصل رزقها إليها رغم أنف الجميع، فسبحان الله الرزاق الكريم.

___

عمر عادة يرسل مالا إلى مصعب شهريا يوصيه أن يوصل المال لأشخاص معينة، ويذكر بجانب كل مبلغ اسم صاحبه، لكنّه هذه المرة كتب بجانب مبلغ معين كلمة (أيتام)، وعادة ما يتعمد عمر قلة الكلام في مواضع معينة، فما أحب مصعب أن يزعجه، فاقتصر على المكتوب وفهم منه أن عمر يوصيه بأن يوزع هذا المبلغ على الأيتام، دون تحديد أعيانهم، بل ترك ذلك لاختيار مصعب.

كان قبل أيام قد تواصل أحدهم مع مصعب يلفت انتباهه إلى امرأة فقدت عملها ظلما وفي حجرها أكثر من أسرة مسؤولة عنهم، فطلب مصعب مساعدة لهذه المرأة من أحد المقتدرين على المساعدة، فلم يستجب، فعندما وصل مبلغ الأيتام لمصعب ذهب إلى تلك الأسرة التي أخبره عنها وسأل أهل البيت إن كان في حجر تلك المرأة أيتام، وكان ذلك فعلا، فأخرج المبلغ ليعطيهم نصفه ليوصلوه للمرأة، ثم تردد لما حُدث به من قبل أهل هذا البيت عن حاجة تلك المرأة، فقرر أن يعطيها المبلغ كاملا.

والمرأة تسكن على بعد أكثر من 50 كم من بيت مصعب، فكان من المفترض أن يحتاج المبلغ إلى يومين أو ثلاثة كي يصل إلى المرأة ريثما يأتي من طريقه إلى مدينتها، لكن سرعان ما قالت إحدى نساء البيت أنها ستتصل بأبيها الساكن قريبا من بيت المرأة كي يعطي المبلغ منه مباشرة لحاجتها، ثم يأخذه منها لاحقا حين يتيسر له ذلك، وفعلا هذا الذي حصل.

بعد يوم أو يومين يتصل مصعب بقريبته الساكنة قرب عمر ليسألها عن أمر لا علاقة له بهذا الموضوع، فسألته إن وصله المبلغ الذي أرسلته إليه مع عمر، فسألها أي مبلغ تقصدين ؟ قالت : (ذاك الذي للأيتام قد أخبرت عمر بأن يوصله إليك)، فقال لها : (نعم استلمته الحمدلله وقد وزعته)، فصُعقت وقالت : (لم أفهم ! هذا المبلغ لأخت صديقتي التي عندها أيتام وليس لأحد غيرها)، فصُعق أيضا وقال : تأخرتِ، لقد استلمت المرأة المال وصار من نصيبها، ويستحيل أن أسحبه منها)، فأقرت بقاء المبلغ معه لما رأته من عجيب سوق الرزق لها، إذ أخطأت قريبة مصعب فلم تخبره بالأمر قبل أن يصل المبلغ إليه ظنا منها أن عمر سيخبره، وأخطأ عمر فلم يخبره أن المبلغ من قريبته ظنا منه أنها أخبرته، وأخطأ مصعب فلم يستفسر من عمر ظنا منه أن الأمر بيّن لا يحتاج لاستبيان، ولو تأخر مصعب يوما واحدا في توزيع المبلغ لأخبرته قريبته بالقصة ولما وصل المبلغ لتلك المرأة، ولو لم يحُدث عن فقرها لبقي نصف المبلغ في يده، ولكن الله قدر، فوصل رزقها إليها من امرأة لم ترها في حياتها وعن بعد أكثر من 2400 كم، رغم أنف الجميع، مع أن مصعب حاول أن يأتي لها بمساعدة من ذاك الرجل، لكنه رفض، فاستبدله الله بتلك المتبرعة التي لم تقصد التبرع لها أصلا، فسبحان الله الرزاق الكريم.

___

حدث أن وُزعت حصص من اللحم على قائمة أسماء بعض المحتاجين، وكان قدر كل حصة ثلاثة صحون، غير أن الحصص قصرت عن أن تلبي كل الأسماء المكتوبة، فأنقصت الموكلة بتقسيم الحصص من بعض الحصص صحنا من اللحم راعت بإنقاصها عدد أفراد كل أسرة، ومن الحصص التي أنقصتها حصة امرأة عجوز تسكن وحدها فقالت يكفيها صحنان، ثم أتى قريبها ليأخذ حصته (المكونة من ثلاثة صحون) وحصة العجوز وحصة امرأة أخرى مثلها، تأكد من الحصص التي سلمتها له.

أوصل الحصتين وذهب بحصته إلى بيته، وبعد مدة قصيرة أخبرته زوجته أن الحصة التي أتى بها فيها صحنان فقط، وليسوا ثلاثة، أين الصحن الثالث ؟ ذهب لتلك العجوز التي حاولت تلك المرأة أن تأخذه منها، لكنه رزق كتبه الله لها فلن يستطيع أحد أن يمنعه عنها، رغم أن قريب تلك المرأة قد تأكد بعينيه من أنه لا يوجد خطأ في الحصص، ولكن الله قدر، فسبحان الله الرزاق الكريم.

___

من منشورات د. وائل بن الدكتور حسن حبنكة الميداني رحمه الله على الفيس بوك :

قصّة حدثت معي عام 1982م أشهد الله عليها :

كنّا نعيش أنا وأخي الدكتور حسن {الذي يكبرني بسنتين} في بيتنا في دمشق وحيدين لا ثالث معنا سوى الله، وكان ذلك منذ عام ١٩٧٦م حتى عام ١٩٨٢م، فوالدتنا رحمها الله ذهبت إلى ربها عام ١٩٧٦م، ووالدي رحمه الله كان يعيش في مكّة المكرّمة مع أمّنا الثانية رحمها الله، ومع أخوينا الحبيبين {أخي الدكتور الشيخ محمد وأختي الدكتوره الشيخه صفا}.

كان والدي يرسل لنا مصروفنا السنوي مع بداية السنة الدراسيّة وكان أخي حسن هو من يستلم المصروف، فهو الأكبرُ سناً والأرجحُ عقلاً {فأنا بطبعي لست أهلاً لتولّي مثل هذه المَهمّة}. 

كان المصروف الذي يرسله لنا والدي في الحدّ الأدنى لاحتياجاتنا و ربما يتجاوزه قليلاً، وكان في قلبي غصّةٌ مما اختاره لنا والدي من المصروف، أدركتُ بعد أن خبرتُ الحياة صدقَ وإخلاصَ والدي فيما كان يفعله، وأدركت رجاحةَ عقله ورشده، وأدركتُ حرصَهُ على ألا يكون المال سبباً في إفسادنا فنحنُ شابان في ريعان الصبا نعيش وحيدين دون رقيب، سيّما وأننا كنّا ممن يشار إليهم بالبنان مما يسهل معه انزلاقُنا إلى ما ينزلق إليه الشباب، فالوسامةُ التي أنعم الله بها علينا مع المكانة الاجتماعيّة، مع وجودنا في كلّية الطب مع ما حبانا الله من بعض الصفاتٍ الخاصّة، مع غياب الرقيب و هذه عوامل تغري وتوقع من في عمرنا إذا كان المالُ في أيديهم يفوق حاجتَهم، وهذا ما كان الوالد يخشاه. 

أدركتُ بعد أن صرتُ رجلاً يعي، وبعد أن أعطانا والدي في الوقت المناسب بسخاءٍ كلَّ ما نحتاجه، أدركتُ أنّ والدي كان على حق {رحمك الله يا أبي}.

تخرّج أخي حسن عام ١٩٨٢ م وسافر للعمل في السعوديّة طبيباً، وأرسل والدي لي مصروف السنّة بما يكفيني بعد أن أصبحتُ وحيداً، ولأنها كانت التجربة الأولىٰ لي في التعامل مع مبلغ من المال بهذا القدر وجدتُ نفسي تائهاً مُسرفاً {والإسرافُ هنا في عدم ضبط المبلغ مع عدد أيام السنة}.

ودون سابق علمٍ وجدتُني وقبل نهاية السنة بثلاثة أشهر، وجدتُني خاليَ الوفاض بعد أن قضيتُ على المصروف بالكامل ولم يبق معي ما آكل به أو أتنقّل أو أشتري من كتبٍ أو ملابس، سوى خمسين ليرة سورية كانت في جيب بنطالي الخلفي {جعلَكَتْها} يدي المُسرفة ودسّتها دون اهتمامٍ أو تركيز {والخمسون ليرة في ذلك الوقت كانت مبلغاً جيداً يكفي شاباً في عمري لتنقلاته فقط خلال أسبوع مع عدّة أكوابٍ من الشاي يشربها في البوفيهات المجاورة للجامعة وأحياناً سندويشة من الجبن أو السجق}.

كنت أذهب إلى الجامعة مشياً على الأقدام من بيتنا في الميدان إلى أتوستراد المزة لأُوفّر ثمن تذكرة الباص، فالخمسون ليرة هي الحصن الأخير الذي أحتمي به.

وحدث ذات يوم والوقت حوالي الساعة التاسعة صباحاً أنني كنت نائماً في البيت وإذا بالباب يطرق تارةً بالجرس وتارةً بالضرب على الباب بيدٍ يصرّ صاحبها على أهل البيت أن يفتحوا !!! فاستيقظتُ مذعوراً وشَعري {كبّاشي} ووجهي يدلاّن على أنني في ذروة الهلع والغضب.

فتحتُ الباب فإذا بامرأةٍ تحمل في يدها طفلةً صغيرةً مريضةً، وتدفع في وجهي ورقةً {وصفةً طبيّة} ومظهرها يدل على فقرٍ أَيْأَسَ صاحبته إلاّ من أملها المعقود على هذا الباب، فصرختُ في وجهها غاضباً ومؤنباً لها على طريقتها في دق الباب وإلحاحها وقلّةِ ذوقها، فقالت لي : والله العظيم إني محتاجه إلى دواء لابنتي المريضةِ جداً ولا أملك قرشاً واحداً من ثمنه.

تمالكتُ نفسي واستعدتُ هدوئي الذي طيّٰرَتْه دقّاتُها المُرعبه، وتذكّرت الخمسين ليرة المُجعلَكةَ في جيبي، وقلت في نفسي : هذه الخمسون لن تكفيني إلى آخر السنة، وإن كنت أحتمي بهذه الخمسين وهي في جيبي فسأحتمي بها وهي في يد هذه الفقيرة المضطرة، ولعلّ في شفاء ابنتها بركةٌ يعوّضني بها الله.

وقبل أن يغلبني شيطاني دفعتُ يدي إلى جيب البنطال التعيس وأمسكتُ بها وسحبتها وأنا أرتجف وأعطيتها للفقيرة وقلت لها : اذهبي بسرعه قبل أن أسترجعها. وأغلقتُ الباب وفي عينَيَّ دمعة.

ذهبتُ إلى الثلاجةِ وأكلتُ ما قسمه الله لي مع ما لقيته من بقايا الخبز، ثم أخذتُ حمّاماً لا ادري بارداً أم ساخناً !! فالعقل شاردٌ في الأشهر الثلاثة القادمة وما تحمله لي الحاجَةُ المتوقّعة !!

من بعدها سَشْوَرْتٍ شعري {فالسيشوار في زماننا كان من أعمالنا البطوليّة التي ننجزها قبل أن نخرج لمواجهة هموم الحياة ومصاعبها !!!}، لبستُ بنطالي الجينز الذي خسر ما في جيبه الخلفي وقميصي المعرّق وخرجت {شبْ مثل الوردة ليس معه شيئاً}.

من عادتي أن أسلك طريق كورنيش الميدان إلى دوار كفرسوسة، ومنه إلى الطريق التي تأخذني إلى المزّة.

لا أدري كيف أخذتني أقدامي من الشارع الداخلي في منطقة الغواص لأجد نفسي أنعطف إلىٰ حارةٍ بجوار منزل عمّي الدكتور محمد - استشاري أمراض الأطفال - وهذا وقتٌ يكون فيه عمّي في عيادته ولا يكون في بيته، ولحظة مروري تحت شباك بيته سمعتُ صوت عمّي الدكتور محمد يناديني من شباك مطبخه : وائل، تعالْ تعالْ أريدك.

فقلتُ له : إنني مستعجل يجب أن ألحّق دوامي في الجامعة والمستشفى.

فقال لي : تعالْ لأمر ضروري.

فدخلتُ إلى بيته وأنا في عجلةٍ من أمري، فقال لي خذ هذا الظرف رسالةٌ من أبيك وفيها مبلغ من المال.

فتحت الظرف فإذا به مبلغ ألفي ليرة سورية، ورسالة من والدي يقول لي فيها : {يا بني استعن بهذا المبلغ على قضاء حوائجك وعليك بتقوى الله ووصيتي لك دينك وأمانتك وعلمك}.

وقفتُ مذهولاً أبكي بكاءً لم يفهمه عمّي، فالدموع كانت أسرعَ من أن أمسحها {وأنا رجلٌ دمعته قريبةٌ من وجنتيه تدفعها نبضاتُ قلبه}. 

قال لي عمّي : إذا ألفي ليرة فعلوا بك هذا ! ماذا يصيبك إذا جاءك مئة ألف ؟!

نظرتُ إليه بعينٍ ترى سرَّ الله في الصدقةِ الخالصةِ لوجهه وانصرفتُ على عجل.

اختلَفتْ مشْيَتي، وأصبحت خطواتي وقورةً، وأوقفتُ تاكسي صَفراء أكل عليها الزمان وشرب، وقلت للسائق : إلى المزّة إذا سمحت عند كليّة الطب.

رحمك الله يا أبي، وبارك الله بك يا عمي، ولك الحمد ربّي على ما أنعمت وأجزيت، وقضيتَ وعلّمت.

___

اشتهت امرأة نوعاً من الخبز فاشترت منه، وخبأت قطعة منه لزوجها، في اليوم التالي جعلت على قطعته لبناً وخبأتها في حقيبته ليتفاجأ بها في عمله فيتناولها على الفطور، ذهب الرجل لعمله الذي يبعد ٣٥ كم عن بيته، تناول الفطور ثم انتبه أن في حقيبته طعاماً، فلم يأكله بل تركه ليأكله لاحقا، ثم ذهب الزوجان إلى مدينة تبعد ٥٥ كم عن بيتهما، وهناك نسيا أكل هذه الخبزة، ثم عادا لمنزلهما في اليوم التالي وقد وضعت الزوجة الطعام في حقيبتها ووضعت فوقه بعض الأغراض مما يخفيه - بلا قصد منها - ونسيت حقيبتها مفتوحة بعض الشيء وناما، استيقظا فوجدا قطهما الصغير الضعيف قد أكلها تماما.

سبحان من ألهمها شراء تلك الخبزة، سبحان من جعلها تحشوها طعاما لمن لم تُرد أن تطعمه منه، سبحان من خبأ للقط هذا الطعام رغم المسافات، سبحان من أنساها إغلاق حقيبتها، سبحان من دلّه على مكان الطعام المخفي تحت تلك الأغراض الكثيرة، سبحان من رزقه رغم أنف صاحبيه على ضعفه وعجزه.