لعل موضوع اليوم هو من أكثر المواضيع حرجاً عند عدد من العاملين في الحقل الإسلامي :
وهو طلب العالِم مقابلاً مالياً لتعليمه شيئاً من الدين، كالبرامج المصورة والدورات وما شابه.
وهو مما يسوء نسبة كبيرة جداً من المسلمين لأنه في اعتقادهم لا يطلب المال عالِم مُخلص، فمن طلب المال إنما يتاجر بالدين لا يريدُ بعمله وجه الله تعالى.
والحق أنه لا يصح إطلاق الحكم بهذه السهولة، بل لا بد من النظر لأمور عدة قبل الحكم :
أولاً، العلماء صنفان :
عالم حق، وعالم سوء.
وهذا التصنيف لا يتعلق بأخذه للمال إنما بالنظر لعلمه وقيمته وعمله فيما يعلم، فلا يضر العالم الحق أخذه للمال بحق، ولا يصرف عن عالم السوء اتصافه بالسوء إن امتنع عن أخذ المال بحق.
ثانياً، أن من يأخذ المال من العلماء والأساتذة يأخذ بقول من أجاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والإفتاء وغير ذلك.
ثالثاً، التعليم الديني بأجر لا ينافي الإخلاص وحصول الأجر للمدرّس إن ابتغى بعمله وجه ربه.
رابعاً، لا يقوم مشروع إسلامي له إفادة حقيقية إلا والمال أحد أركانه الأساسية، وأسباب ذلك :
- أن المختص المبدع في أي مجال سواء كان عالماً أو مصمماً أو مصوراً أو مبرمجاً أو مخرجاً إلخ - غالباً - لا وقت كافياً لديه للأعمال التطوعية، لانشغاله بتحصيل رزقه وتطوير نفسه.
- أنه يختلف التعامل بين المتطوع و بين من يعمل بأجرة، فالمتطوع لا تستطيع {ولا يتقبل إلا نادراً} أن تُكثر عليه التعديلات والملاحظات وغير ذلك، لأنه ببساطة يمكنه الاعتذار في أي لحظة إذ ليس ملزماً بالعمل أصلاً، بخلاف من تُعطيه أجرة، وهذا مما يؤثر على جودة العمل.
- أن أدوات المشروع مكلفة جداً، ومثاله : آلات تصوير والحواسب وأجرة أماكن التصوير {Studio} والإعلانات المأجورة على وسائل التواصل وغير ذلك.
وتتبين ضرورة التمويل عند النظر إلى حال الأعمال التطوعية التي يشوبها من النقص {بسبب عدم توفر المال} ما يشوبها، فإن كانت مكتملة - وهذا يندر - فإنها لا تستمر استمرار المشاريع الممولة بلا شك، والواقع خير دليل.
خامساً، يُحاول القائمون على المشاريع الإسلامية والإنسانية تمويل مشاريعهم من التبرعات والمحسنين والجهات الحكومية المسؤولة، وهذا يتم لهم في مشاريع ولا يتم في مشاريع أخرى {وأحياناً يكون تهربهم من التمويل من خارج المشروع لئلا يكون للمشروع تبعية للممول، فيعبث في منهج المشروع وأهدافه}، مما يضطرهم إلى أن يكون التمويل من المستفيدين من مشروعهم {كالدورات التدريبية المأجورة مثلاً}.
سادساً، قدر الأجرة التي يطلبها المُدرّس لا تُقدر بقدر أجرة غيره من المدرسين، بل تُقدّر بقيمة المادة العلمية المُقدّمة، فإن رأينا من يطلب أجرة عالية برأينا فلا ينبغي اتهامه بأنه يتاجر بالعلم والدين، بل ينبغي النظر للمادة العلمية التي يقدمها، فبعض الدورات فيها خلاصة علم هذا المُدرّس، أي يختزل سنوات كثيرات من بذل الجهد والمال ليلقيها في دورة واحدة.
سابعاً، العلماء والأساتذة من حيث حالتهم المادية كغيرهم متفاوتون، فمنهم الغني وهؤلاء يندر فيهم من يطلب الأجرة على تعليمه الإسلامي.
ومنهم المكتفي أو الفقير، فإن كان المصور والمبرمج والمصمم وغيرهم يأخذون أرقاماً كبيرة لأجل عملهم فلم نعيب على المُدرّس أخذه للمال ؟ خاصة أن المشروع كله يدور في أصله على المادة التي سيلقيها هذا المدرس وزملاؤه المدرسون! وعلى هذا فلو أخذ المدرس الغني المال لقاء تعليمه فلا يعاب عليه، خاصة أننا نعلم أن غنى هؤلاء أصحاب الغايات الأخروية مفيد للمجتمع لما نعلمه منهم من دعمهم للفقراء والمساكين والأعمال التي تعود على المسلمين بخير، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد قال صلى الله عليه وسلم : يا عمرو إني أريد أن أبعثك وجهاً، فيسلمك الله ويغنمك، وأزعب لك من المال زعبة صالحة ". قال : قلت : يا رسول الله، إني لم أسلم رغبة في المال إنما أسلمت رغبة في الجهاد والكينونة معك. قال : " يا عمرو، نعمّا بالمال الصالح للرجل الصالح.
ثامناً، عدد كبير من المدرّسين عملهم الدنيوي هو التدريس ذاته، فإن لم يأخذوا أجرة على تدريسهم فمن أين لهم أن يأتوا بدخل يؤمن لهم حياة كريمة!
تاسعاً، العلماء ومدرسو العلوم الإسلامية ينبغي أن يكونوا على رأس هرم المجتمع قيمة وتكريماً، ففي حديث أبي داود قال صلى الله عليه وسلم : {العلماء ورثة الأنبياء}، فحري بنا أن نهيّىء لهم حياة كريمة تليق بمكانتهم في الشرع، وألا نضيق بهم ذرعاً إن كنا فقراء إذ هم في مقدمة من يبذلون جهدهم في تغيير حالنا كما سبق.
والله تعالى أعلم.