السير الذاتية وتدليساتها.

إدارة الموقع.

يكثر مؤخراً على مواقع التواصل الاجتماعي نشر السير الذاتية لشخصيات معينة يُراد بذلك إشهارها وتسليط الضوء عليها.

تارة يهدف الناشر محقاً تعريف الناس بالشخصيات النافعة ليُستفاد من علمها وعملها، ومرة يكون الهدف تضليل الناس من خلال تزيين علم المبطلين،

ولعل ثالثاً يريد خيراً فينشر باطلاً وهو لا يدري.

ومما ينبغي التدقيق فيه لبيان الحق من الباطل عدة نقاط :

أولها : التحرز من الكذب والتدليس. 

أما التدليس فهو إظهار معنى يخالف الواقع بعبارات حمالة أوجه فلا يُحكم بكذب الكاتب إنما يُحكم بتدليسه، ومثاله في التراجم {أي في السير الذاتية} :

[ومن شيوخه في العلم كذا :

العلامة الحجة شيخ الإسلام فلان الفلاني]. 

أ- المعنى المراد إيهام القارئ أن هذا الطالب قد قرأ على أحد كبار علماء الأمة وأنه أخذ العلم كلّه أو جلّه عنه، ونتيجة هذا الكلام :

- صار صاحبنا علّامة أو قريباً من ذلك، إذ يتبادر لذهن العوام أن الطالب أشبه بأستاذه العلّامة من غيره، ولا يشترط ذلك، إذ قد يدرس المرء على أيدي كبار أهل العلم ولا ينتفع بهم الانتفاع المرجو لمثله، وذلك لاختلاف ظروف الدراسة والتدريس، ومدارك الطالب وغير ذلك.

وقد لا يكون الشيخ المذكور علّامة ولكنه حباً بشيخه يطلق عليه أبهى الألقاب، أو لسوء تقديره {وقد يكون من كبار الأئمة فعلاً}، بل قد يكون المذكور ليس شيخاً متخصصاً أصلاً ، بل داعية ولكن لشهرته أراد أن يلتصق اسمه باسم هذا المشهور. 

ودرج في السنوات الأخيرة أن يذكر الطالب فلاناً في شيوخه :

- وقد التقى به مرة واحدة أفاد منه معلومة واحدة أو أكثر {وعدّ هذا الشيخ من شيوخه صحيح، لكن أن يظهر للناس بما معناه أنه أخذ قسطاً كبيراً من علمه أو رافقه سنوات عدة فهذا من التدليس المقرف}.

- أو لم يلتق به ألبتة! بل هو يتابعه على اليوتيوب فلإفادته منه دوّن اسمه بين شيوخه. 

- كما يوحي أنّ الطالب أخذ كل العلم المذكور منه، وليس شرطاً ، إذ ربما لم يقرأ عليه إلا كتاباً واحداً أو جزءاً منه، صَغر أم كبر، تخصصياً كان الكتاب أم بدائياً، بطريقة الحدر، أم التفصيل والشرح.

ب- ولا يغتر القارئ بما يضفيه الناشر على المنشور له، من أنه مثلاً :

- من أهل التخصص، إذ لا تصدق عليه كلمة أهل التخصص حتى يشهد له بذلك أهل التخصص الثقات، كما أن الطبيب لا يصح أن يشهد له المريض بأنه من أهل التخصص بل لا بد من شهادة الأطباء المختصين له {ومما ينبغي التنويه إليه أن التخصص لا يُقاس بالشهادات، فرب شيخ مسجدٍ أعلم وأجل من حاملٍ للدكتوراه، والعكس صحيح}.

- أو أنه مسؤول القسم الفلاني أو مديره، لأنه معلوم للعاملين في الشركات أن هذه المسميات صارت فضفاضة تُطلق مجازاً لا حقيقة.

مثال آخر في التدليس :

ذكر مؤلفات عدة له، فيكبر المنشور عنه في عين القارئ، غير أن قيمة المؤلفات في قيمة مضمونها :

- لا في عددها، فكم من كتاب صغير خالٍ من النقولات غير النفيسة أضاف للمكتبة الإسلامية إضافة علمية حقيقية لم يضفها كتاب كبير بمجلدات كثيرة محشوة بالنقولات عن كتب أخرى.

ولا في حجمها : فكم من كاتب له من المؤلفات ما هي أقرب للكتيبات منها للكتب ثم ترى مجموع كل أوراق مؤلفاته لا تساوي حجم كتاب واحد.

مثال أخير في التدليس :

[ذكر ما ناله من إجازات، كقوله وقد أجازني الشيخ فلان بكتاب كذا أو إجازة عامة].

والإجازة أنواع لكنها في المجمل وفي الأصل هي إتقان المُجاز بما أجيز فيه، فهي قريبة من معنى الشهادة في الأنظمة الأكاديمية. 

وقد توسع معنى الإجازة حتى صار أقرب إلى المجاز، فأُلبست لباس التشريف وبعدت عن نطاق الأكاديمية العلمية إلى حد أن من الشيوخ من يجيز كل من حضر درسه العام الذي يحضره الصغير والكبير والجاهل والعالم، بل منهم من يجيز أهل عصره، أي كل المسلمين في شتى بلاد العالم ممن سمع بالشيخ ومن لم يسمع.

فمن الممكن أن يكون المدلس قد نال إجازته من مجلس عام نام نصفه، أو من مقطع على الشابكة يجيز فيه الشيخ أهل عصره أو السامعين لمقطعه هذا.

ثانيها : مراعاة عُمره بالمكتوب في سيرته الذاتية، مثاله :

قد يذكر شيخاً، فإذا دققنا وجدنا أن هذا الشيخ قد توفاه الله في التسعين من عمره حين كان عمر هذا الطالب خمسة عشرة سنة، فهذا نقطع أنه لم يفد من الشيخ في العلوم الشرعية الإفادة التي أفادها منه الكبار سناً من طلبة العلم الذين درسوا على الشيخ في أوج عطائه وتمام عافيته.

ثالثها : لا ينبغي أن تؤثر كثرة عدد التفاعلات مع المنشور على القارئ، ومن يرى عدد الإعجابات على الباطل الصريح من المنشورات علم أنه لا قيمة لكثرتها، ومن أسباب كثرة التفاعلات نشر المنشور في مكان مكتظٍ، أو على صفحة الناشر الشخصية لكثرة أصدقائه المتفاعلين مع منشوراته ليضفي عليها الشرعية {وقد يكون العدد حقيقياً ولا نية سوء عنده}.

أخيراً، فإن كل ما سبق يختص بالتدليس لكثرته أما الكذب الصريح فأماراته أوضح {كمن يخرج على الناس على حين غفلة يدعي العلم والتخصص والماضي العريق، ولا يُعلم عنه شيء قبل إظهاره لنفسه {وغالباً لا سبيل للتأكد من بياناته}، وهؤلاء يُكشفون سريعاً للباطل الذي يطرحونه باسم العلم، إذ يأبى الله إلا أن يحفظ دينه.

وما سبق منهج يصح أيضاً إسقاطه على السير الذاتية لمدعي التخصص في العلوم الدنيوية.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود : 88].

والله المستعان.