مدونات الجزيرة
الابتسامة من أجمل الإشارات الإيجابية التي تصدر من الإنسان لتعبر عما يجول في نفسه، ونحن بدورنا نستقبل هذه الإشارة وتترجمها مستقبلات عقولنا إلى عدة تفسيرات ترتبط بالسعادة فمثلاً نقول إن فلاناً يبتسم؟ إذا هو سعيد! وهناك أشخاص تركيبتهم التشريحية لعضلات وعظام الوجه تظهرهم مبتسمين على الدوام أو قاطبي الحواجب والجبين!
ولكن في حقيقة الأمر إن للابتسامة أنواعاً وأشكالاً كثيرة تتفاوت بين الأفراد حسب العمر والجنس، وأحيانا موقعه الجغرافي يلعب دوراً في شكل الابتسامة ونوعها، فالشعب الأكثر ابتساماً هم البرازيليون! حسب دراسة أصدرتها النيويورك تايمز. لكن ربما لا تدري عزيزي القارئ أن هناك مجموعات لعلماء بارزين تبحث في العلم الكامن وراء الابتسامة؟ وإذا بحثت في جوجل ستجد مئات الأبحاث وكتباً تناقش هذه الإشارة البسيطة.
وهل تعلم أن هذه الإشارة لا تعتبر عند الكثيرين على أنها ابتسامة لسعادة عابرة، بل ترتبط في اعتقادات تحولت منها إلى مُسّلمات وفرص لاستقطاب الشباب للتطرف، ولكن المثير الأكثر في كل التفسيرات المبنية على أنواع الابتسامة هو نوع واحد تتداوله فئة معينة بين فترة وأخرى، لا تجزع مما سأقول لأنه أمام العلم تسقط كل الخزعبلات والأقاويل، ألا وهي ابتسامة الميت.
الدماغ البشري بطبيعته يخزن الإشارات، وخصوصا المتكررة والمرتبطة بالعادات والممارسات اليومية، والابتسامة في كثير من الأشخاص تتحول إلى عادة.
معتقدات متداولة
يقال في مجتمعنا الإسلامي إن فلاناً عندما مات كان مبتسماً، وهذا دليل على أنه بُشر بالجنة، وبقيت أؤمن بهذه العبارة وأسمعها مراراً وتكراراً في كل عزاء، كنوع من الحمد والتمجيد للميت وراحة وسعادة لأهل الميت، إلى أن سمعت هذه القصة وعندها كان لا بد من تدخل العقل البحثي التحليلي في تفسير أو نفي هذا الاعتقاد.
قديماً كنت أعرف وأسمع عن شخص في حارتنا عربيدٍ وفاسقٍ من الدرجة الأولى وقد مات فجأة بجلطة قلبية، جاءني أحدهم يقول "كنت اليوم في جنازة هذا الإنسان، وما شاء الله كان مبتسماً ووجه ناصع البياض كالملائكة ورائحته عطره، فقد عفا عنه الله ورحمه وكافأه جنات العُلا، إن الله غفور رحيم رغم أن سيرته الحياتية سيئة".
لا أنكر أن الله غفور رحيم ولكن أؤمن وبشدة أن الصالح والطالح ليسا سواء، وأؤمن بعدالة رب العباد في مكافأة من أحسن عملاً ولن يكون ذلك متساويا مع إنسان لم يعمل ذرة خير واحدة في حياته، وقضاها مُقامراً ونصاباً وبلطجياً ويشتم الذات الإلهية في كل لحظة وما إلى ذلك من سوء الخُلق.
بالتالي هل سيكون عبرة حسنة بأن يحذو الشباب حذوه في العربدة والرذيلة وسيرزقون الجنة والمغفرة عند الموت؟ هنا قفز إلى عقلي سر الابتسامة عند الموت، هل هي مرتبطة بالتبشير في الجنة؟ وهل هي تنبؤ بسعادة الدار الآخرة؟ وهل فعلاً من مات مبتسماً من الإرهابيين لأن الحور العين كانت تحف سرير موته وتزفه إلى القبر؟
الأدلة القرآنية واضحة صريحة تدعو إلى الصلاح والعمل من أجل الآخرة، ولكنها لم تتحدث عن الابتسامة، وبما أن كل ظاهرة في حياتنا مرتبطة بحقائق علمية فلا بد من تشغيل العقل للتفكر في صحة هذه الموروثات والمعتقدات.
تشريحياً
يتحكم في تحقيق الابتسامة عضلتان، وهي "العضلة الوجنية العظمى"، والتي من خلالها تتحرك زاويا الفم وترتفع الوجنتان، وكان داروين أول من فسر آلية عمل هذه العضلة واعتبرها هي العضلة الوحيدة التي تتحكم بالابتسامة الحقيقية أو المزيفة.
إلى أن ظهرت بسمة "الموناليزا" والتي رسمها الرسام الشهير "دافنشي" وحيرت من بعده العلماء، فظهر العالم الفرنسي "دوشين" واكتشف أن هناك عضلة أخرى مرتبطة فقط في الابتسامة الحقيقية، وهي "العضلة العينية الدويرية" وهذه العضلة تشريحياً مميزة في بعض الأشخاص، واضحة في ابتسامة الموناليزا المرتبطة بالعضلة حول العين، رغم أن الناظر إلى اللوحة يقول إن شفتيها لا تبتسمان ولكن الناظر إلى عينيها يشعر بالبسمة.
بالتالي ارتخاء هذه العضلات عند الموت وبشكل مريح جداً دليل على ظهور معالم الابتسام على بعض الموتى، وشكل الوجه التشريحي يلعب دوراً كبيرا في ذلك وهذا ما وثقته العالمة "مريان لافرانس" في كتابها الشهير "Why smil?" في عام ٢٠١١، وكذلك العالم "باول إيكمان" في العديد من أبحاثه المتركزة على تعابير الوجه، حيث لديه مئات الأبحاث المنشورة ضمن كتبه وأشهرها كتاب
"Unmasking the face".
فسيولوجيا ونفسياً
الدماغ البشري بطبيعته يخزن الإشارات، وخصوصا المتكررة والمرتبطة بالعادات والممارسات اليومية، والابتسامة في كثير من الأشخاص تتحول إلى عادة، وكثيراً ما يرتبط وصفنا لشخصية شخص ما بأنه مبتسم على الدوام وبالتالي اعتادت عضلات الوجه التعبيرية على إصدار تكرار هذه الإشارات، وهذا يرتبط أيضا بشكله الأخير عند الموت، وأيضا كل من حوله يراه كما كان يراه كل يوم.
هناك دراسات أخرى أكدت أن ابتسامة الميت ترتبط بشكل كبير بقناعته في الموت، وأنه نهاية مريحة للإنسانية، وبالتالي عند الموت تظهر على وجهه علامات الراحة والاستبشار وبالتالي هو اعتقاد ليس مرتبطاً في دين معين بحد ذاته، وهذا تؤكده ابتسامة "تشي جيفارا" المناضل الكوبي وهو ميت، وكذلك الكثير من صور القساوسة والرهبان والحاخامات اليهودية والبوذيين والهندوس وغيرهم وبإمكان القارئ إيجاد الصور من خلال جوجل.
الإنسان بطبيعته يرفض التفكير في الموت، وبمجرد قدوم هذه الفكرة إلينا نهز رؤوسنا ونبعدها بتغيير منحى التفكير أو الموضوع تماماً، وأوضحت الدكتورة "لافرناس" عن العديد من الدراسات التي قامت بها جامعتي "يال ونيويورك" في دراسة نظرية" Terror management theory" "إدارة الرعب"، وقد تم تطبيقها على ضحايا الحادي عشر من سبتمبر، حيث قارنوا تعابير وجوهم من خلال صورهم قبل الموت وصور جثامينهم، وكانت كل وجوههم هلعة وخائفة خالية من أي معالم ابتسامة، وهذا دليل أنهم كانوا نفسياً غير مستعدين للموت.
كل اعتقاد لا بد أن نحكم فيه العقل ونحن مأمورون في ذلك بالتفكر والتعقل