استوقفني هذا المقال للدكتور طارق عنقاوي، والذي له قناة مميزة على تلغرام باسم (الطارق): (t.me/ttangawi).
المقال عميق نافع. وانصح إخواني أن يتاملوه:
هكذا يقولون: تخلص من مواقفك المسبقة.. عليك أن تتسائل .. عليك أن تشك.. بغير ذلك لن تتيقن ولن تكون عقلانيا!
هذه التعبيرات أو ما يشبهها تطرح كثيرا كأسلوب لزعزعة موقف الإنسان في ما نشأ عليه، وربما طرحت كذلك على المسلم لتشكيكه في دينه أو ثوابته عموما، وثمة مغالطة كبيرة في تعميم هذه الفكرة، وتوظيفها للتسوية بين المختلفات والتشكيك في القطعيات، ولنكشف ذلك فيما يلي:
ليس كل ما نشأ عليه الإنسان في مرتبة واحدة من الصحة والبطلان والقطعية والظنية، وبالتالي ليس كل ما نشأنا عليه يستدعي الشك وذم التمسك به لمجرد أنه مما نشأنا عليه، فإن مما نشأنا عليه ما لا يقبل عاقل الشك فيه أصلا كالقضايا الفطرية والعقلية القطعية، فمن الذي يشك في كون الجزء أصغر من الكل، أو الواحد مع الواحد يساوي اثنين، أو في ضرورة السبب للمسبب!
التفكير السليم والعقلانية هو البناء على الفطرة والضرورات العقلية وإدراك ما يترتب عليها، أي أن ننطلق من الحقائق الثابتة ثم نستخدم قواعد العقل لبناء المعارف، فنستدل مثلا بمبدأ السببية وعدم التناقض وإدراك التلازمات بين مقدمات الأدلة ونتائجها لتتطور المعرفة، وهذا الطرح بعمومه حين يشكك في ما علمناه وتوصلنا إليه وفق هذا التفكير السليم، هو في الحقيقة مرض ووسوسة! ولذلك:
نجد أن القرآن أمر بالتفكر في الآيات ليتيقظ الإنسان لما تقتضية الفطرة ونظر العقل الصحيح، فيتنبه لما يلزم من تلك الآيات من معارف، فيرى فيها آثار صفات الخالق، ويشعر بعظيم حقه، ويتجه لتوحيده.. ومن حاد عن هذا السبيل قيل له في استنكار {أفي الله شك فاطر السماوات والأرض}، فالشك في وحدانية الله وفي صحة الرسالة ليس أمرا عاديا يتفق مع العقل والفطرة، لأنها ثابتة بأدلة قطعية، بل لا بد للشك في ذلك من وسوسة وخلل في منهج التفكير، وهذا لا يختص بهذه الأصول الكبار، بل أن ما تستلزمه من طاعة الله ورسوله والتسليم لأحكام الله وتصديق خبر الوحي بتفاصيله يدخل في ذلك، لأن ما استلزمه القطعي قطعي.
وبهذا تتنبه لمغالطة بعضهم بأن يورد لتأييد هذا الطرح الآيات التي تتضمن الدعوة لإعمال العقل والتفكر، فنقول: ما سبق من التفكر الصحيح الموافق للفطرة والآيات الدالة على صحة حقائق الدين وصدق الرسالة هو المقصود بهذه الآيات، ولم يدع القرآن للشك في الفطرة والنظر السليم! بل ذلك مرض، ولذلك حين ورد في القرآن ورد مورد الاستنكار، ففي الشك في الوحدانية {أفي الله شك فاطر السماوات والأرض} ، وفي الشك في صدق الرسول المخالف لما علم من حال صدقه: {قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون}، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
إذا: التفكيرالسليم والعقلانية هو البناء على الفطرة والضرورات العقلية وإدراك ما يترتب عليها والانطلاق نحو التوحيد والطاعة، وليس البقاء في المربع الاول والشك فيه بشكل مرضي
تصحيح الطرح منهجيا بشكل عام هو أن يقال: العبرة بالفطرة والدليل العقلي السليم وما يترتب على ذلك، فإن كانت النشأة عبارة عن بقاء على ذلك، فمن المرض واللاعقلانية استدعاء الشك فيه، وإذا كان الإنسان قد نشأ على تغيير للفطرة وتصورات محدثة غير مستندة للأدلة، فعليه أن يبحث عن أدلة ليتحقق ولا يعتمد على مجرد الاعتياد والنشأة. وبناء على ذلك:
لا يصح إيراد هذا الطرح على نشأة المسلم، فالإسلام دين الفطرة والبراهين العقلية، لذا فإن مجرد النشأة عليه لا تستدعي الشك، ولنزد بيان هذا من وجوه:
أن أصول الإسلام من اعتقاد كمال الله ﷻ وتوحيده والخضوع له، هي قضايا فطر الله ﷻ الناس عليها أو على ما يستلزم إدراكها ولو إجماليا، ولذا فإن المستمر على الفطرة لديه دليل فطري، وهذا معلوم بالنصوص، كما في قوله تعالى: {فطرة الله التي فطر الناس عليها}، وبالتجربة والواقع يجد كل الناس نزعة الإقرار بكمال الله ووحدانيته، بل حتى الملاحدة ينزعون لذلك في اعتراضاتهم على الأحكام مثلا، فيجعلون عدم الظلم في حق الله مقدمة في اعتراضاتهم على بعض الأحكام الشرعية التي يتوهمون أن فيها ظلما..فينبغي الانتباه إلى مغالطة تصوير المسلم بصورة الخالي من البرهان وتجاهل برهان الفطرة.
أن كون إيمان الشخص مبنيا على البراهين العقلية لا يستلزم أن يكون قادرا على استحضار صياغة معينة لتلك البراهين، أو التعبير عنها في صورة استدلال يقيم الحجة على الغير، فوجود معنى الدليل في نفس الإنسان شيء، وتصوره على شكل دليل شيء، وتقديمه للغير شيء آخر، والوجود كاف للتيقن.
أن القرآن مليء بالبراهين العقلية، فكل مسلم يقرؤه ويفهمه هو في الواقع يستقي تلك البراهين وتثبّته، بغض النظر عن قدرته على تصورها في صورة براهين وصياغتها..
.. فالقرآن مشتمل على أصول الأدلة العقلية، كدليل السببية وعدم التساوي بين الخالق والمخلوقين، كما في قوله تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} ، ففي الآية استحالة الخلق من غير سبب، وعدم صلاحية الخلق للتسبب، وهذا معلوم للقارئ أنه لنقصهم وافتقارهم وعدم كمالهم، فيدل ذلك على الأحدية أيضا، لأن انتفاء هذه الاحتمالات لا يبقى بعده إلا إثبات خالق ليس كالمخلوقين، متصف بالكمال المطلق دونهم.
كذلك ذكر آيات الله ﷻ في الكون وتعدادها وبيان أوجه الإحكام والتسخير يدل على الخلق وصفات الخالق
وكذلك أدلة النبوة والدفاع عن النبي ﷺ وذكر أحواله التي تقتضي صدقه، وتحدي الثقلين في الإتيان بمثل القرآن، وما في القرآن في ذاته من كمال البيان والمعاني والإخبار بالمغيبات وغير ذلك (انظر مثلا للتوسع: النبأ العظيم لدراز https://archive.org/download/nabaa_azeem/nbzm1.pdf )
والحاصل أن المسلم الذي ينشأ على الفطرة السليمة والدين الحق المليء بالبراهين القاطعة هو في موقف عقلاني قاطع، حتى لو لم يستحضر صيغ الدلالة العقلية، ولذلك نجد أن المسلمين مهما اختلفت درجات علمهم يشعرون عموما بقوة دينهم وصحته ويتمسكون بذلك، ونجد أن تشكيك المسلم في دينه أصعب من تشكيك أهل المعتقدات الأخرى التي تقوم على تناقضات مع الفطرة والعقل.
لا شك أنه كلما قوي تدبر المسلم في القرآن وتفكره في آيات الله وتقربه لله بالطاعات زاد إيمانه ويقينه، ومن هذا المنطلق يدعى المسلمون لزيادة إيمانهم، لا بالشك المتكلف كما في هذا الطرح، ولكن بالتدبر في كتاب الله والتفكر في خلقه والقرب منه وزيادة التقوى، والبعد عن أهل المغالطات الذين يلقون الشبه وعن مقالاتهم، كما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم).
[انظر: https://t.me/ttangawi/35 ]
والله الهادي