بقلم د. حاتم العوني
أولاً : يجب أن يكون الحديث عن حكم المولد بعلم وعدل , وأن لا ننكر اختلاف العلماء فيه , وأن هناك بعض جلة العلماء حكى استحبابه بشروط .
بل هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم) ، مع حكمه على المولد بأنه بدعة ؛ إلا أنه عذر مقيميه , بل اعتقد حصول الأجر العظيم لهم فيه ، فقال (رحمه الله) : ((فتعظيم المولد ، واتخاذه موسما ، قد يفعله بعض الناس ، ويكون له فيه أجر عظيم ؛ لحسن قصده ، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم . كما قدمته لك : أنه قد يحسن من بعض الناس ، ما يستقبح من المؤمن المسدد)) .
ثانيا : أما لتفصيل حكمه :
فأقول : من استثمر يوم المولد للتذكير بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم , أو لإذكاء عاطفة حبه في نفوس المسلمين , من غير غلو (كاستغاثة) , ولا مصاحبة منكرات (كاختلاط) , ولا خرافات (كدعوى حضوره صلى الله عليه وسلم يقظة) , ومن غير اعتقاد فضل خاص لهذا التذكير في يوم محدد , وإنما هو من باب استثمار تاريخ الحدث الجليل في استحضاره في النفس , كما يستحضر الخطباء يوم بدر في السابع عشر من رمضان , ويوم الفتح في العشرين منه , ويوم الهجرة في بداية السنة الهجرية = فهو حلال ؛ لأنه لم يعد يرتبط به اعتقاد عبادة مبتدعة , وانتقل بهذه الشروط من البدعة المحرمة إلى المصلحة المرسلة المباحة , فهو بهذه الشروط لا يتضمن إلا مجرد اتباع للوسائل المبلغة لمصلحة شرعية وهي : التذكير بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم , أو إذكاء عاطفة حبه في نفوس المسلمين .
وأجد أنه من الضروري لتصحيح الحكم بالإباحة : التأكيد دائما على من يحضرون الموالد ويقيمونها على أمور :
- أن إقامة تلك الدروس والاحتفالات (الخالية من المنكرات) لم يكن لأن إقامة المولد عبادة , وإنما لأنه مجرد استثمار لوقت الحدث من أجل تحقيق مصلحة شرعية منه.
- أنه ليس ليوم المولد السنوي خاصية ولا فضيلة ثابتة .
- بيان منكرات الاعتقادات والأقوال والأفعال المقطوع ببطلانها التي تنتشر في كثير من الموالد .
فمع هذه الشروط لا أجد في المولد بدعة , ولا ما يدعو فيه للإنكار عليه وعلى مقيميه .
كما أني لا أجد حرجا في قول من امتنع من إقامته امتناعا مطلقا , من باب مدافعة الخلل الكبير الذي يحصل فيه , وسدًّا لذرائع المنكرات المنتشرة فيه ؛ إذا كان صاحب هذا القول الممانع لا يبالغ في ممانعته , فلا ينكر على من أباحه بتلك الشروط , ويجيز اختلاف الاجتهاد فيه , ما دام ملتزما بتلك الشرائط . فهذا القول بهذا الشرط قول سائغ , له ما يجعل له حظا من النظر .
والواقع أن شبه هذا يحصل عندنا في السعودية دون نكير , فعامة خطب الجمعة وكثير من مواعظ المساجد عندنا تتحدث عن المولد بإنكاره قرب موعده السنوي (في آخر خطبة قبله , أو عشية ليلته) , وهي ربما بدأت بذكر فضائل النبي صلى الله عليه وسلم وحقوقه على أمته , ثم تختم بذكر منكرات الموالد . فهي أقامت المولد الذي أرى إباحته , لكنها لم تسمه بالمولد .
ونحوه : ما كتبه ويكتبه علماء السلفية في مجالس شهر رمضان , ككتاب الشيخ ابن عثيمين (رحمه الله) , والذي فيه تذكير بغزوتي بدر والفتح في يوميهما من رمضان . وأراد الشيخ (رحمه الله) أن يقرأه الناس في المساجد كل سنة , ويرجو هو (رحمه الله) ومن يريد له استمرار الأجر به : أن لا تنقطع قراءة هذه المجالس في كل رمضان من كل سنة , وأن يعمّ وينتشر بين المسلمين , وكثيرا ما يحصل ذلك في مساجدنا , ويتكرر كل سنة . فتكرار قراءة خبر هاتين الغزوتين في يومين محددين من كل سنة , لم يجعل هذا الفعل بدعة ؛ لأن هذا التحديد لم يقع على وجه التعبّد به ؛ وإنما على وجه استثمار تاريخه في زيادة التأثير به , وفي ترسيخ تاريخه , وفي تذكّر نعمة الله تعالى علينا بهذين اليومين العظيمين في تاريخ الإسلام .
وكحل وسط : أصبح كثير من مقيمي الموالد لا يلتزمون بالموعد السنوي المحدّد , فيقيمون مجالس تذكير بفضائله صلى الله عليه وسلم في عرض العام , وعدة مرات فيه . وهذا المولد إذا خلا من بقية منكرات بعض الموالد فلا إشكال فيه البتة , بشرط عدم اعتقاد كونه عبادةً مقصودة لذاتها .
الخلاصة :
ومن هذا يتضح أنه يجب التفريق بين صورتين للمولد :
1-صورة يكون فيها المولد من المصالح المرسلة : وذلك إذا كان بقصد استثمار تاريخ هذا الحدث الجليل للتذكير بسيرته صلى الله عليه وسلم , أو لإذكاء جذوة محبته صلى الله عليه وسلم في القلوب , من غير اعتقاد فضيلة خاصة لليوم , تجيز تخصيصه بعبادة , أو باعتقاد لا دليل عليه .
وهذه الصورة هي التي استحسنها كثير من العلماء كأبي شامة وابن ناصر الدين وغيرهما كثير من سادة الأمة .
2-وصورة يكون فيها بدعة , حتى لو خلا من الغلو والمنكرات , وهو فيما لو خُصَّ هذا اليوم باعتقاد فضل يخصه , وصار يُظن أنه ترتبط به عبادات يزداد أجرها فيه , أو أن مثل تلك الاحتفالات في هذا اليوم المخصوص مقصودة لذاتها , كما تُقصد العبادات المشروعة لذاتها .
وهذه الصورة هي التي استنكرها كثير من العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من سادة الأمة .
نشرت حكم المولد مفصلا بالأمس ، فكان هناك اعتراضات ، أجمل أهمها فيما يلي ، متبعا كل اعتراض بجوابه :
الأول : الصورة التي تذكرها للمولد المباح لا وجود لها .
والجواب : على فرض التسليم بعدم الوجود ، فالتفصيل جاء لتصحيح الموجود .
الثاني : وقع خلاف في تحديد يوم المولد ، فكيف يُخص بهذا اليوم تحديدا .
والجواب : لو كان التفصيل الذي ذكرته يجعل هذا اليوم مختصا بعبادة معينة ، لصح الاعتراض ، أما والتقرير لا يجعل هذا اليوم مختصا بعبادة معينة ، بل هو مثل تحديد يوم سنوي للتذكير بأمر مهم .
وبناء عليه : يكون الاختلاف في تحديد يوم المولد مؤيدا للتقرير الذي ذكرته ، ومقويا له ، لا معترضا ولا مشكِلا عليه .
وأقوى الأقوال في مولده صلى الله عليه وسلم أنه كان يوم الاثنين الموافق ١٢ من ربيع الأول .
ويليه في القوة أن يوم الاثنين الذي ولد صلى الله عليه وسلم كان في ٩ ربيع الأول .
أما القول الأول فهو المروي بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنه ، وهو الذي عليه عامة أهل السيرة .
وأما القول الثاني : فهو نتيجة ظنية للدمج بين الروايات والحساب الفلكي الذي قام به محمود باشا الفلكي في كتابه : نتائج الأفهام في تقويم العرب قبل الإسلام .
الاعتراض الثالث : أن شيئا لم يفعله الصحابة والتابعون وتابعوهم ، كيف نفعله نحن ؟! هل نحن أشد حبا للنبي صلى الله عليه وسلم منهم ؟!
والجواب : هذا الإيراد يكون صحيحا على من اعتقد المولد عبادة مشروعة في هذا اليوم الخاص ، فهذا الاعتقاد يجعلها بدعة ولا شك . أما من اعتقده مصلحة مرسلة ، تُعمل للتعريف به صلى الله عليه وسلم ، ولزيادة الحب له عليه الصلاة والسلام = فلا يكون لهذا الكلام معنى ! لأن المصالح المرسلة لا يلزم فيها الورود عن السلف ، وما زال الناس ( ومنهم المعترض) يتوسلون بأمور مباحة لتيسير الطاعات وللوصول إلى العبادات ، ولم يعملها السلف .
فلو قيل له : المآذن والمحاريب بدعة ، ولو كانت خيرا لسبقنا إليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ! ماذا سيقول ؟!
ومن ألزم في المصالح المرسلة بالورود عن السلف فقد ابتدع في الدين ، وخالف الإجماع ، وناقض نفسه .
الاعتراض الرابع : في هذا تشبه بالكفار ، فهم يحتفلون بمولد عيسى عليه السلام .
والجواب : ليس كل تشبه حرام ، وقد بينا ذلك مرارا . فقد قال صلى الله عليه وسلم : (( خالفوا اليهود ، فإنهم لا يصلون في خفافهم ولا في نعالهم )) ، وأجمع المسلمون على الصلاة حفاة وعلى عدم تحريم ذلك .
ثم هذا النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بصوم عاشوراء شكرا لله تعالى أن نجَّى الله تعالى فيه موسى عليه السلام من فرعون ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( نحن أحق بموسى منهم )) ، ولم يقل صلى الله عليه وسلم : لا نصوم ولا نظهر الشكر مخالفة لهم ، بل أظهر الشكر بالصوم مراغمة لهم ؛ لأننا أولى منهم بموسى عليه السلام .
أفلا يمنعنا التشبه بهم في إظهار الشكر على نجاة نبيهم عليه السلام ، ويمنعنا توهم التشبه بإظهار الشكر والفرح بمولد نبينا صلى الله عليه وسلم ؟!
كما أن من أعظم المخالفة للكفار : الاحتفاء بنبينا صلى الله عليه وسلم ، فهذا من أعظم المخالفة لهم ؛ لأنهم يكفرون به صلى الله عليه وسلم .
الاعتراض الخامس : لا تفتح باب الشر ، ولا تفتح باب الفتنة ، فالمولد حرام سدا لباب الغلو والشركيات !
والجواب : أن سد باب الشر يكون بفتح باب الخير ، والتقرير الذي ذكرته يفتح باب الخير ، ويبين الأخطاء . وبذلك تُسد الذرائع حقا ، لا بتحريم المباح ، بحجة سد الذرائع .
يجب علينا أن نسد ذرائع تحريم المباح بالغلو والتشدد ، كما نسد ذرائع الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم .
المقصود : أن الموالد البدعية قائمة ، والتي فيها الغلو والاختلاط والمنكرات موجودة ، وهذا التقرير جاء لبيان خطرها ومخالفتها لشرع الله تعالى ، كما جاء لبيان الطريقة المشروعة للاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم .
الاعتراض السادس : أقوال العلماء في تبديع المولد واستنكاره .
الجواب : أقوال علماء أكثر عددا بكثير في إباحته بشروط ، فاجتهاد العالم لا يرده اجتهاد العالم ، وإنما المرجع للدليل : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } .
وقد بينت في التقرير السابق : أني أحترم قول المانعين بإطلاق ، ما احترموا قول المبيحين بشروط . فإن أنكروه ، استحق فولهم الإنكار ؛ لأنهم خالفوا الإجماع المتيقن : من عدم جواز الإنكار في مسائل الاجتهاد المعتبر .