الفقه الإسلامي - المعاملات المالية - أحكام البيوع و الشركات - البيوع
رقم الفتوى 11983
نص السؤال مختصر

ما حكم بيع الشيء قبل قبضه؟

نص السؤال الكامل

صرح الفقهاء ضمن شروط صحة البيع بأنه لا يجوز بيع الشيء قبل قبضه ، ولكن اليوم تنوعت صور القبض حتى يُعَدَّ التوقيع في الأوراق أو رضى العاقدين قبضاً ، فما هي الصورة الصحيحة للقبض في الفقه الإسلامي؟ وما هو التطبيق المعاصر لذلك ؟ 

الجواب مختصر
الجواب الكامل

بسم الله، والحمدلله ،والصّلاة والسّلام على رسول الله، أمّا بعدُ :

القبض : بمعنى عام هو الحيازة ،ووضع اليد ، وهو عبارة عن حيازة الشيء والتمكن منه ، سواء كان مما يمكن تناوله باليد أم لم يمكن ، وقال العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى : " قولهم قبضت الدار والأرض والعبد والبعير يريدون بذلك الاستيلاءَ والتمكن من التصرف " الإشارة إلى الإيجاز ، له ص 106 ، أو هو وضع اليد الممكن من التصرف بالمقبوض  .

ويشترط في المبيع أن يكون تحت يد البائع ليستطيع أن يتصرف فيه بالبيع وغيره ، وأن يسلمه للمشتري ، ليتمكن من الانتفاع به ، ويستهلكه ، لأنه يترتب على عقد البيع وجوب تسليم المبيع من البائع إلى المشتري ، ويترتب على القبض ووضع اليد ضمان المبيع ، سواء كان عند البائع قبل البيع ، أو بعد العقد وقبل التسليم ، وإن باعه وانتقلت ملكيته للمشتري ، فيبقى ضمانه على البائع حتى يسلمه ، فإذا تلف المبيع عند البائع قبل التسليم فيهلك من حساب البائع ، ويفسخ البيع ، ويسترد  المشتري الثمن إن كان قد دفعه ، وينتهي عقد البيع .

ولا يجوز لشخص أن يبيع شيئاً غير موجود عنده ، لحديث حكيم بن حزام رضي الله عنه ، قال : قلت : يا رسول الله ! يأتيني الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي ما أبيعه منه ، ثم أبتاعه من السوق ؟ فقال : " لاتبع ما ليس عندك " رواه أبو داود 2 / 254 ، والترمذي 4 / 430 ، والنسائي 7 / 254 ، وابن ماجه 2 / 737 ، وأحمد 3 / 402 ، 434 بأسانيد صحيحة . 

وإن بيع المال قبل قبضه ووضع اليد عليه ممنوع شرعاً، وإنه لا يجوز للمشتري أن  يبيع  المبيع قبل قبضه ، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : " كنا نشتري الطعام جزافاً ، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه " رواه البخاري 2 / 750 رقم 2024 ومسلم 10 / 170 رقم 1527 ، وأبو داود 2 / 251 ، 252 

ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما : " وأما الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو الطعام أن يباع حتى يقبض " قال ابن عباس : " وأحسب كل شيء مثله " رواه البخاري 2 / 751 رقم 2028 ، ومسلم 10 / 168 رقم 1525 ، وأبو داود 2 / 252 ، وروى ابن عباس رضي الله عنهما  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه " فقال ابن عباس : " وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام " رواه مسلم 10 / 160 رقم 1525 ، وأبو داود 2 / 252 ، ورواه البخاري بمعناه 2 / 751 رقم 2028 ، وهناك أحاديث أخرى ، وأدلة كثيرة ، لامجال لعرضها .

ويختلف القبض باختلاف جنس المبيع ونوعه ، وإن كل شيء بحسبه ، وما يتفق مع طبيعته، وهو في الجملة نوعان في القديم : عقار ومنقول ، ثم جاءت الصور المعاصرة التي سنبينها إن شاء الله تعالى .

وهنا نقرر حقيقة أن الشرع لم يحدد طريقة ، ولا كيفية للقبض ، ولذلك يتم الرجوع إلى العرف والعادة فيما يكون قبضاً للأشياء ، وهو ما قرره العلماء في القاعدة المشهورة التي عرضناها في كتابنا " القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة " 1 / 314 ، وكتابنا " القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذهب الشافعي " 2 / 119 ، ولفظها " كل اسم ليس له حد في اللغة ، ولا في الشرع ، فالمرجع فيه إلى العرف " ، وسبق لها الفقهاء ، فقال الخطيب الشربيني : " لأن الشارع أطلق القبض وأناط به أحكاماً ، ولم يبينه ، ولا حد له في اللغة ، فرجع فيه إلى العرف "( مغني المحتاج 4 / 112 ) ، وقال تقي الدين ابن تيمية : " وما لم يكن له حدّ في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى عرف الناس ، كالقبض المذكور في الحديث السابق " ( فتاوى ابن تيمية 3 / 272 ) ، وكان ذلك أحد أسباب الاختلاف بين الفقهاء ، ومنشأ اختلافهم هذا هو اختلاف العرف والعادة  فيما يكون قبضاً للأشياء ، وحسب اختلاف عادات الناس فيه ، وهذا منصب -في الجملة – على القبض الحقيقي المدرك بالحس غالباً .

وهنا نعود إلى السؤال في تنوع صور القبض اليوم كالتوقيع في الأوراق أو رضى العاقدين قبضاً ، لنقرر المبدأ الأساسي في الفقه الإسلامي الذي لم يحدد كيفية محددة للقبض ، وتركه للعرف والعادة ، ونقول : يرجع في كل نوع من التصرفات إلى اعتبار العرف والعادة فيه ، فما تعارف عليه الناس ، وتعودوه في حياتهم ليكون قبضاً فهو مقبول في الشرع ، ولو كان توقيعاً أو لمجرد رضا العاقدين .

وهنا نشير إلى النوع الثاني من القبض ، وهو القبض الحكمي ، وهو سائغ ومقبول ومعتبر عند الفقهاء القدامى في أحوال كثيرة ، ويقوم مقام القبض الحقيقي ، ويُنزل منزلته ، وإن لم يكن متحققاً حساً في الواقع ، وذلك لضرورات ومسوغات تقتضي اعتباره تقديراً وحكماً ، وتترتب أحكام القبض الحقيقي عليه ، وهذ ما عرضه الأخ الفاضل والزميل الأثير الأستاذ الدكتور نزيه حماد في بحثه " القبض الحكمي للأموال وتطبيقاته في المعاملات المصرفية المعاصرة "، وجاء في "درر الحكام شرح مجلة الأحكام العدلية" : " ولا يتوقف تحقق القبض الشرعي على قبض المشتري للمبيع بالفعل كما هو معنى لفظ القبض لغة " وفي الفقه حالات كثيرة ، لامجال لعرضها ، ونكتفي بتعداد أهمها ، كالتخلية ، واعتبار الدائن قابضاً حكماً وتقديراً للدين إذا شغلت ذمته للمدين ، وكاقتضاء أحد النقدين من الآخر ، والمقاصة ، وتطارح الدينين صرفاً ، وجعل الدين الذي على المسلَم إليه رأس مال السلم ، ورهن الدين عند المدين ، وهبة المرأة مهرها المؤجل لزوجها ، ونيابة القبض السابق مناب القبض المستحق اللاحق ، وتنزيل إتلاف العين منزلة قبضها ، واعتبر المالكية النظر إلى الجُزاف في بيعه قبضاً له ، وفي ذلك تفاصيل واختلافات فرعية .  

ومن صور القبض الحكمي المعاصر للأموال : القيد المصرفي لمبلغ من المال في حساب العميل ، وقيد المصرف لمبلغ للعميل في حسابه بعملة أخرى ،فهو عقد صرف ناجز ويتحقق فيه القبض ، وشراء نقد من مصرف بنقد أجنبي وأخذ الشيك فيه ، فاستلام الشيك قبض حكمي لمضمونه ، وإرسال برقية ( تلكس ) إلى بنك آخر ، واستلام شيك عند التصارف مسحوباً على البنك المراسل ، والشراء من مصرف  نقداً بنقد مع وجود حساب للمشتري في بنك آخر وإرسال برقية ( تلكس ) بتحويل المبلغ ، وقرر مجلس المجمع الفقهي بمكة قرارات في ذلك ، منها 1 – يقوم تسلم الشيك مقام القبض ، 2 – يُعتبر القيد في دفاتر المصرف في حكم القبض لمن يريد استبدال عملة بعملة أخرى ، ثم قرر مجمع الفقه الإسلامي الدولي قريباً من ذلك ، وفيه 1 – قبض الأموال  كما يكون حساً في حالة الأخذ باليد أو بالكيل أو الوزن أو النقل والتحويل إلى حوزة القابض ، يكون اعتباراً وحكماً بالتخلية ، ولو لم يوجد القبض حساً ، وتختلف كيفية قبض الأشياء بحسب حالها واختلاف الأعراف فيما يكون قبضاً لها ، 2 – إن من صور القبض الحكمي المعتبرة شرعاً وعرفاً  : القيد المصرفي بالإيداع في حساب العميل ، والعقد مع العميل لشراء عملة بعملة أخرى ، واقتطاع المصرف مبلغاً من الحساب إلى حساب آخر بعملة أخرى ، 3 – تسلم الشيك إذا كان له رصيد قابل للسحب .

والله تعالى أعلم 

تاريخ النشر بالميلادي 2019/11/10

المفتي


الأستاذ الدكتور محمد مصطفى الزُحَيلي

الأستاذ الدكتور محمد مصطفى الزُحَيلي

السيرة الذاتية
المحتوى الخاص به