الذكريات تنتقل عبر الأجيال

كلّما زاد معدلُ البحثِ العلميّ والتعمقِ فيه، تأكد لذوي العقول الصحيحة علاماتُ قدرة وإبداع الله– تعالي-؛ لزيادة فرص مخلوقاته والكائنات الحية في النَّجاة والتأقلم والحفاظ بطرق إبداعيَّة من نوعها.
يمكن أن يتأثر السلوك الحالي بالأحداث في الأجيال السابقة، والتي مُرِّرت عبر شكل من أشكال الذاكرة الجينية؛ فحسب الدراسات التي أُجريت على الحيوانات،
أظهرت التجارب أن الأحداثَ ذات التأثير الصَّادم، أو الأحداثَ التي تنزل كالصاعقة وتسبب الصدماتِ لذويها، قد تؤثر في الحمض النوويّ في الحيوانات المنوية، وتغير أدمغة وسلوك الأجيال اللاحقة.
تشير دراسةٌ بعلم الأعصابِ نُشرت في مجلة (Nature) إلى أن الفئران التي دُرِّبت لتجنب رائحةٍ ما، مررت هذه الميزةَ إلى أحفادها، وقال الخبراءُ أن النتائجَ مهمة للأبحاث المتعلقةِ بالخوف والقلق؛ إذ دُرِّبت الحيواناتُ على الخوف من رائحةٍ مشابهةٍ لزهر الكرز، وذلك بتعريضهم لصدمةٍ كهربائية مباشرة لبعضِ الوقت؛ مما جعلهم يتجنبون هذه الرائحة.
بعد هذه العملية نظر فريقٌ بكلية الطب في جامعة (إيموري) بالولايات المتحدة إلى ما كان يحدث داخل الحيوانات المنويَّة، وأظهرت الدراساتُ أن قسماً من الحمض النووي المسؤول عن الحساسية لرائحة زهر الكرز كان أكثرَ نشاطاً في الحيوانات المنوية للفئران؛ فكان كلٌ من الفئران الحالية وذريتها شديدي الحساسية للغاية لزهر الكرز، وكانوا يتجنبون الرائحة على الرغم من أنهم لم يختبروها أبداً في حياتهم، وَعُثِر على تغيُّراتٍ في بنية الدماغ أيضا.


رؤيةٌ عامة:
توفر النتائج دليلاً على الانتقال الوراثي للإبجينيتك(الوراثة الفوقية) عبر الأجيال، وعلى أن البيئة يمكن أن تؤثر على وراثة الفرد، ويمكن أن تنتقل بدورها عبر ذريته.
قال أحد الباحثين وهو الدكتور (برايان دياس) لهيئة الإذاعة البريطانية: «قد تكون هذه آليّة واحدة تظهر من خلالها للأحفاد بصمات سلفهم. ليس هناك شك في أن ما يحدث للحيوانات المنوية والبويضة يؤثر على الأجيال اللاحقة».
وقال (ماركوس بيمبري) الأستاذ بكلية لندن الجامعية: «إن النتائج ذات الصلة بالاضطرابات الرهابية، والقلق، واضطرابات ما بعد الصدمة، قدمت أدلة دامغة على أنه يمكن تمرير شكل من أشكال الذاكرة بين الأجيال. في دراسة النفور من الرائحة، نعتقد أن بعض السيالات العصبية للرائحة تنتهي في مجرى الدم، الذي يؤثر على إنتاج الحيوانات المنوية، أو أن إشارةً من الدماغ أُرسلت إلى الحيوان المنوي لتغيير الحمض النووي».

تعليقنا نحن الباحثون المسلمون:
صحيحٌ أن الأمر فيه تجارب علمية مثبتة ولكنها قليلة وغامضة وأكثرها نجاحاً تلك التي تمت على الديدان المفلطحة، لا عبر التناسل لأجيال فقط. بل يتم هذا التوريث كذلك عبر الالتهام لفرائسَ من نفس جنس المفترِس، فقد يرث بعضا من سلوكياته (الاحترازية خصوصاً)، وتجارب الخوف وردود الأفعال إزاء مؤثرات معينة، فالذي ثبت أن أجيال الديدان توارثت الذاكرة الجينية حتي الجيل (14)؛ وذلك لغياب المؤثر الخارجي. وباختصار، هذه الديدانُ لها خاصيّةُ التوهُّجِ بفعل جين ناشط في ظروف بيئية مرتفعة الحرارة، ثم تم نقلها لوسط ذي درجة حرارة أقل، ومع ذلك استمرت بالتوهج بل وورَّثت هذه الخاصيةَ أو الذاكرةَ البيئيةَ للأجيالِ التي خلفتها رغم غياب الدافع، وعيشها بوسط شديد البرودة حتى الجيل (14) ثم اختفت، ويُعزّى ذلك – غالب الأمر- إلى معالجةٍ معلوماتيّة جينية بعدم نفعية هذه الخاصية في وسط بارد قارٍّ ثابت.
أما أمر الاحتفاظ بمعلومات الذاكرة – وحده- هذا حوله جدلٌ كبيرٌ، والآن تضاف المعلومات الجينية المورِّثة لخبرات ناتجة عن عوامل الإبجينيتيك في الأسلاف، وهذه كلها ملاحظات رصدية فقط، غير مفسرة بتفصيل علمي.
من جهة أخرى، تبقى هذه الظواهر آليّات بديعةً تكشف عن وعي ومعالجة ذكية للمعلومات بأجساد الكائنات ومحيطها الخارجي، وتصب لصالح الكائن كحفظه من الأخطار، وتعزيز القدرة على تمييز هُويَّته وجنسه؛ بتزويده بترسانة وقائية من الذكريات والخبرات يتوارثها بسلالته، تعزز بقاءه ومقاومة التهديد خلال رحلة حياته، وهذا من إبداع الخالق الهادي، ولا يخدم مزاعم التطوُّرِ الدَّاروينيّ الذي يحتاج- حتى يثبت- تغيُّراً جينيا مثبتاً ونافعاً يدمر هُويَّة الحمض النوويّ الأساسية، وإعادةَ تشفيره، فما بالك بأن يُعوَّلَ على ذاكرةٍ كيميائية غامضة هشّة قابلةٍ لأن تُعوض بأخرى، أو تُمسح نهائيّا حسب مصلحة الكائن.
الأمر أشبه بالكشف عن تعزيزٍ مُسلح من نوع جيني كيميائي يستفيد منه الحيوان عبر الأجيال داخل منظومة جنسه ونوعه المحدد؛ فبداهةً إذن، نحن أمام آليّات حفظٍ سلوكية، تماماً كوظيفة تصحيح الطفرات؛ فالهدف واحد ومعاكس لمفهوم تطور الكائن وانتقاله.

تحميل المقال