سرطان اللسان

صادر عن الموقع

في الحقيقة الموضوع ليس مكانه مقالاً يُكتب ، إنما منبر آخر ، حيثُ يصل لمن لا يقرأ ، و لعل من يقرأ يُفقّه من غاب و لم يقرأ ، كما قَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَعَلِّمُوهُمْ ". رواه البخاري .

الغيبة ، وقد تكرر الحديث عنها مرات ومرات ، حتى صار المرء يعلم مسبقاً ما سيُقال عند علمه أنّ الموضوع المطروح يتناولها .

يبقى السؤال ، لم التكرار في طرح الموضوع ؟ و لم الخلل في تطبيق لدى الكثير من الناس ؟

قبل الشروع في الإجابة ينبغي أن نتذكّر أن الغيبة { ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ } كما عرّفها صلى الله عليه وسلم و حكمها أنها من كبائر الذنوب ، و حتى نتخيل معنى أنها من { كبائر الذنوب } لابد من ذكر بعض هذه الكبائر ، و إن تفاوتت درجاتها ، لكن تبقى جميعها تحت مسمى واحد ، كالسرقة و السحر و عقوق الوالدين و القتل العمد و الزنى و اللواط و قذف المحصنات و الكذب الخ .

إن قراءة هذه الأسماء تنفر النفس السوية من الغيبة لمجرد تصنيفها معهم ، وقد يسأل سائل لم كانت منهم ؟

لأنّ للمسلم حقاً في غَيبته و حضوره ، و انتقاصي منه في غيابه تشويهٌ لسمعته وازدراءٌ له .

كيف يكون تشويهاً و من نستغيبه مخطئ ؟ الإجابة ما قَالَه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا ". أي ينبغي عليك أن تنصره إن ظلم ، بأن تمنعه عن الظلم و تُعينه على تصحيح مساره ، لا أن تنتقص منه في غيابه و تفضحه !

و مرجع الغيبة أمران اثنان :

إما ظلمٌ : أي أن يغتاب وهو يعلم أنه يغتاب .

أو جهلٌ : أي إنه أصلاً لايعلم أنه وقع في غيبة أخيه .

و الحقيقة أن الناس في ذلك على أربعة أنواع :

* الأول ، من يغتاب و يبرر غيبته أخاه :

بل و يُطيل جداً ثم يختم حديثه بحجج واهية تبرر فعله .

- كالقول أنا أتكلم بما حصل و لا أغتاب .

و الذي قاله صاحبنا هنا هو عين الغيبة ، و لو كذب و قال ماليس كائناً فيمن استغابه لكان أشدّ وبالاً و أعظم ذنباً .

- أو كمن يذكر أخطاء غيره في غَيبته لشخصٍ لايقدم و لا يؤخر في الموضوع شيئاً فتلك هي غيبة محضة سواء أكان المُغتاب مظلوماً ممن استغابه أم لا

- أو يختم حديثه بالقول اللهم لا استغابة !

وهو كقول السادة الفقهاء عن القول الباطل ، [ ردّه حكايته ]، أي لايحتاج الاستدلال على بطلانه ، إنما مجرد سماعه تميّزه الآذان .

- أو من فضلك غيّر الحديث لا أريد استغابته الآن ! 

هنا لمزه أمام الناس بل شوّه صورته .

- أو من تشكو أم زوجها أو العكس ، أمام القريب و البعيد ، بحجة أنها " بتفش قلبها " .

 

* النوع الثاني من يغتاب و يُقر :

وهو ممن مات قلبه فيستمرئ الذنب وهو يشعر بالنشوة ، بل يستمتع بالغيبة .

أمثلة ذلك كثيرة ، منها :  

- أن ينظروا لصاحبه بحيث يلمزون بأعينهم أو إشاراتهم شخصاً آخر لم ينتبه لهم ، حتى الضحك بمعرض اللمز ، كقوله لصاحبه .. تذكر فلان ؟ ثم يضحكان دون أي كلمة .

- أو ذكر الله و الدعاء بمعرض اللمز ، كالقول .. فُلان ؟ الحمدلله على نعمة العقل ، أو الله يهديه .

- أو أن يستغيب أحدهم دون ذكر اسمه ، و لكنه معلوم عند السامع .

- أو النكت المتداولة والتي يُسخر و يُستغاب فيها سكّان محافظة معينة أو دولة بأكملها ، و لتخيل عظم هذه الحالة ننوه أن كل ما سبق من أمثلة هي عن استغابة فرد بعينه ، وهنا نتكلم عن دول يقطن فيها الملايين من الناس ، هل يتجرأ عاقل على هذا الفعل ؟

- أو ممن يُقلد شخصاً غائباً بما يكره ويكون في الغالب لإضحاك الآخرين . 

- أو استثارة صاحبه كأن يتعمد أن ينقل له أخبار من يكره ليستمتع بغيبته .

في كل الحالات السابقة إثم السامع كإثم المُغتاب ، إلا حالة واحدة ذُكرت آخر المقال .

و صور الغيبة كثيرة نكتفي بهذا القدر إن شاء الله .

 

* النوع الثالث من يغتاب ولا يأثم :

هو في الظاهر مُغتاب ، و لكن الشرع أباح له ست حالات ذكرها الإمام النووي رحمه الله إذ قال :

اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها وهو ستة أسباب:

 الأول: التظلم فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه فيقول : ظلمني فلان بكذا .

 الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا فازجره عنه ونحو ذلك، ويكون مقصوده التوصل إلى إزالة المنكر فإن لم يقصد ذلك كان حراما.

 الثالث: الاستفتاء فيقول للمفتي : ظلمني أبي أو أخي أو زوجي أو فلان بكذا فهل له ذلك ؟ وما طريقي في الخلاص منه وتحصيل حقي ودفع الظلم ؟ ونحو ذلك فهذا جائز للحاجة؛ ولكن الأحوط والأفضل أن يقول : ما تقول في رجل أو شخص أو زوج كان من أمره كذا ؟ فإنه يحصل به الغرض من غير تعيين، ومع ذلك فالتعيين جائز كما سنذكره في حديث هند ( انظر الحديث رقم 1532 ) إن شاء الله تعالى.

 الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصحهم وذلك من وجوه منها: جرح المجروحين من الرواة والشهود وذلك جائز بإجماع المسلمين بل واجب للحاجة.

 ومنها: المشاورة في مصاهرة إنسان أو مشاركته أو إيداعه أو معاملته أو غير ذلك، أو مجاورته ويجب على المشاور أن لا يخفي حاله بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة.

 ومنها: إذا رأى متفقها يتردد إلى مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك فعليه نصيحته ببيان حاله بشرط أن يقصد النصيحة، وهذا مما يغلط فيه وقد يحمل المتكلم بذلك الحسد ويلبس الشيطان عليه ذلك ويخيل إليه أنّه ينصحه فليتفطن لذلك.

 ومنها: أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها إما بأن لا يكون صالحا لها، وإما بأن يكون فاسقا أو مغفلا ونحو ذلك فيجب ذكر ذلك لمن له عليه ولاية عامة ليزيله ويولي من يصلح أو يعلم ذلك منه ليعامله بمقتضى حاله ولا يغتر به وأن يسعى في أن يحثه على الاستقامة أو يستبدل به.

 الخامس: أن يكون مجاهرا بفسقه أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس، وأخذ المكس وجباية الأموال ظلما وتولي الأمور الباطلة فيجوز ذكره بما يجاهر به ويحرم ذكره بغيره من العيوب إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما ذكرناه.

 السادس: التعريف فإذا كان الإنسان معروفا بلقب كالأعمش والأعرج والأصم والأعمى والأحول وغيرهم جاز تعريفهم بذلك، ويحرم إطلاقه على جهة التنقص، ولو أمكن تعريفه بغير ذلك كان أولى.

 فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء وأكثرها مجمع عليه . ودلائلها من الأحاديث الصحيحة المشهورة. انتهى.

 

ما العمل تجاه من استغبتهم من قبل ؟

إما أن يكون قد بلغهم قولك فيهم فتستسمح منهم .

أو لم يبلغهم فلتُكثر من الدعاء لهم و الصدقة عنهم .

 

أخيراً ، مما يُساعد على التخلص من الغيبة أو سماعها عدة أمور ، منها :

١- البُعد عن المُغتابين ، و صحبة الصالحين :

لأن الصاحب الصالح يردعك إن اغتبت شخصاً ما ولا يُقرّك على فعلك ، بينما صاحب السوء إنما يستثير حافظتك لتزداد إثماً ، و لاشك أن الصاحب له أثر كبير على المرء .

٢- عدم استثارة أي موضوع يغلب على ظنك أن الغيبة مرتكزه ، كأن تذكر شخصاً مُخطئاً أو مكروهاً أمام من يغتاب بطبيعته .

٣- تجنب التعميم ، كالقول إلا من رحم الله ، أو ذكر التغليب دون العموم ، كأغلب الناس تفعل كذا الخ ، و إن ذّم أحدهم أمامك فئة من الناس فاستدرك عليه بلطف ، كقولك له .. نعم صحيح الغالبية كذلك أو الكثير .

٤- إن ضاق صدرُك بما لاتطيق ، فليكن بوحك لمن لايعلم عمّن تتكلم ، و لتحرص على أن ألا يعلم السامع من المقصود و إلا تحولت لغيبة . 

٥- إن حضرت الغيبة لمجلس أنت فيه إما أن تذب عن المُستغاب بأن تبرر له و تُحسن الظن به أمام الحاضرين ، أو تذكر محاسنه أمامهم ، أو تغير الحديث فوراً بشكل مباشر أو افتعالي دون أن يشعروا ، وإن لم تستطع فغادر المجلس ، و السبب إما مباشر كأن تخبرهم أن مغادرتك بسبب غيبتهم ، أو غير مباشر كأن تجد سبباً ما ، تستطيع من خلاله الخروج من المجلس بسلام .

و إن كانت كل هذه الخيارات تؤدي - حقيقةً - لمفسدة أكبر ، فلتبق في مجلسك صامتاً و لتُنكر بقلبك وذلك أقل الإيمان .

ولا يُنتقل للخيار الأخير إلا عند العجز عن إمكانية تطبيق أحد الخيارات السابقة

و الخجل ليس من المبررات الشرعية التي تبيح البقاء في المجلس مع إنكار القلب ، كذلك مخافة ذمّهم لك .

٦- تجنب الزيارات و الأماكن التي يغلب على ظنك أنها مواطن للغيبة ، أو أنك تعلم أن فيها ما سيُعكر صفو قلبك بالغيبة أو الحقد لوجود شخص ما ، فاعتزالها أصوب .

ومن الأسباب الإيمانية :

الالتجاء إلى الله بالدعاء أن يُعافينا من آفات اللسان و أمراض القلب .

وورد يومي من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 

ومن الكتب التي تُساعد على نقاء القلب :

قسم المهلكات من كتاب مختصر منهاج القاصدين .

والحمدلله رب العالمين .

والله تعالى أعلم .